ومن باب الإشارة في آيات من هذه السورة الكريمة
يا أيها النبي اتق الله إلخ فيه إشارة إلى عظم شأن التقوى وكذا شأن كل أمر ونهي يتعلقان به عليه الصلاة والسلام، وفيه أيضا إشارة إلى أنه لا ينبغي محبة أعداء الله عز وجل حيث نهى عن طاعتهم وهما كالمتلازمين.
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه لأن موقعه في البدن موقع الرئيس في المملكة، والحكمة تقتضي وحدة الرئيس، وفي الخبر إذا بويع خليفتان فاقتلوا أحدهما.
وقيل: إن ذاك لتشعر وحدته في بدن الإنسان الذي هو العالم الأصغر المنطوي فيه العالم الأكبر بوحدة الله سبحانه في الوجود، وينبغي أن يعلم أن للقلب عندهم كما قال الصدر القونوي إطلاقين الأول إطلاقه على اللحم الصنوبري الشكل المعروف عند الخاصة والعامة، والثاني إطلاقه على الحقيقة الجامعة بين الأوصاف والشؤون الربانية وبين الخصائص والأحوال الكونية الروحانية منها والطبيعة وهي تنشأ من بين الهيئة الاجتماعية الواقعة بين الصفات والحقائق الإلهية والكونية وما يشتمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما بعد الارتياض والتزكية، وظهور ذلك مما ذكر ظهور السواد بين العفص والزاج والماء، وهذا هو القلب الذي أخبر عنه الحق على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه:
«ما وسعني أرضي ولا سمائي [ ص: 101 ] ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الوادع»، وهو محل نظر الحق ومنصة تجليه ومهبط أمره ومنزل تدليه، واللحم الصنوبري أحقر من حيث صورته أن يكون محل سره جل وعلا فضلا عن أن يسعه سبحانه ويكون مطمح نظره الأعلى ومستواه، وادعوا أن تسمية ذلك الصنوبري الشكل بالقلب على سبيل المجاز باعتبار تسمية الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول.
وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم فيه أن الحقائق لا تنقلب وأن في القرابة النسبية خواص لا تكون في القرابة السببية، فأين الأزواج من الأمهات والأدعياء من الأبناء، فالأمهات أصول ولا كذلك الأزواج، والأبناء فروع ولا كذلك الأدعياء، ومن هنا قيل: الولد سر أبيه، وقد أورده
الشمس الفناري في (مصباح الأنس) حديثا بصيغة الجزم من غير عزو ولا سند ولا يصح ذلك عند المحدثين، وهو إشارة إلى الأوصاف والأخلاق والكمالات التي يحصلها الولد بالسراية من والده لا بواسطة توجه القلب إلى حضرة الغيب الإلهي وعالم المعاني، فإنه باعتبار ذلك قد تحصل للولد أوصاف وأخلاق على خلاف حال والده، ومنه يظهر سر ( يخرج الحي من الميت ) [الأنعام: 95، يونس: 31، الروم: 19]
.
فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم فيه إشارة إلى أن للدين نوعا من الأبوة ولهذا قد يقع به التوارث.
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم لأنه عليه الصلاة والسلام يحب لهم فوق ما يحبون لها ويسلك بهم المسلك الذي يوصلهم إلى الحياة الأبدية.
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم أي في الأزل إذ كانوا أعيانا ثابتة أو يوم الميثاق إذ صار لهم نوع تعين.
ليسأل الصادقين عن صدقهم سؤال تشريف لا تعنيف، والصدق على ما قالوا أن لا يكون في أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب ولا في اعتقادك ريب، ومن أماراته وجود الإخلاص من غير ملاحظة المخلوق، وتصفية الأحوال من غير مداخلة إعجاب، وسلامة القول من المعاريض، والتباعد عن التلبيس فيما بين الناس، وإدامة التبري من الحول والقوة، بل الخروج من الوجود المجازي شوقا إلى الوجود الحقيقي.
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود إلخ طبق بعضهم ما تضمنته الآيات من قصة الأحزاب على ما في الأنفس ولا يخفى حاله، ومن غريب ما رأيت أن الشيخ
محيي الدين قدس الله سره قسم الأولياء إلى أقسام وجعل منهم قسما يقال لهم اليثربيون وقال: هم قوم من الأولياء لا مقام لهم كما لسائر الأولياء وجعل قول المنافقين
يا أهل يثرب لا مقام لكم إشارة إلى ذلك، وكم قول غريب لهذا الشيخ غفر الله تعالى له
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا لأنه عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق على الإطلاق وأحظى الناس بإشراق أنوار أخلاقه عليه الذين يرجون الله تعالى واليوم الآخر ويذكرونه عز وجل كثيرا لصقالة قلوبهم وقوة استعدادها لإشراق الأنوار وظهور الآثار.
من المؤمنين رجال أي رجال كاملون، وقول بعضهم: أي متصرفون في الموجودات تصرف الذكور في الإناث كلام بشع تنقبض منه - ككثير من كلام المتصوفة - قلوب المقتفين للسلف الصالح.
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا إلخ فيه إشارة إلى أن حب الدنيا وزينتها يكون سببا لمفارقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والبعد عن حضرته الشريفة وأن محبته عليه الصلاة والسلام تكون سببا للأجر العظيم.
يا نساء النبي من يأت منكن إلخ فيه إشارة إلى تفاوت قبح المعاصي وحسن الطاعات باعتبار الأشخاص ومثل ذلك تفاوتها باعتبار الأماكن والأزمان
[ ص: 102 ] وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم إشارة إلى مقام التسليم وأنه اللائق بالمؤمنين وهذا حكم مستمر على الأمة إلى يوم القيامة فلا ينبغي لأحد بلغه شيء عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم أن يختار لنفسه خلافه لإشعار ذلك باتهام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام. ولعل الإشارة في الآيات بعد ظاهرة لمن له أدنى التفات.
بيد أنهم أطالوا الكلام في الأمانة المذكورة في قوله تعالى:
إنا عرضنا الأمانة الآية، فلنذكر بعضا من ذلك فنقول: قال الشيخ محيي الدين قدس سره في (بلغة الغواص): إن الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها هي السعة لمعرفة الله تعالى فلم يوجد في السماوات والأرض قبول لما قبله الإنسان بهذا التأليف الصوري إذ هو ثمرة العالم فهو يرى نفسه في العالم ويرى ربه سبحانه بالعالم الذي هو نفسه من حيث هو كل العالم، فلذلك اتسع لما لم يسعه العالم ولذلك خصه سبحانه بالسعة حيث أخبر جل شأنه أنه لم يسعه سماواته ولا أرضه ووسعه قلب المؤمن من نوع الإنسان، انتهى.
وكأنه أراد بكونه وسع الحق سبحانه كونه مظهرا جامعا للأسماء والصفات على وجه لا ينافي تنزيه الحق جل جلاله، وهذا قريب مما ذكرناه في التفسير وقلنا إنه مشرب صوفي كما لا يخفى.
وقال آخر: هي عبارة عن الفيض الإلهي بلا واسطة، وحمله خاص بالإنسان لأن نسبته مع المخلوقات كنسبة القلب مع الشخص فالعالم شخص وقلبه الإنسان فكما أن القلب حامل للروح بلا واسطة وتسري منه بواسطة العروق والشرايين ونحوها إلى سائر البدن كذلك الإنسان حامل للفيض الإلهي بلا واسطة ويسري منه إلى ظاهر الكون وباطنه بواسطة ظاهره وباطنه من أعمال البدن والروح فظاهر العالم وباطنه معموران بظاهر الإنسان وباطنه، وهذا سر الخلافة.
ومعنى كونه ظلوما أنه ظالم لنفسه حيث استعد لأن يحمل أمرا عظيما، وكونه جهولا أنه جاهل بها حيث لم يعرف حقيقتها ولم يدرك منها سوى الصورة الحيوانية المتصفة بالصفات البهيمية من الأكل والشرب والنكاح، وهاتان الصفتان في حق حاملي الأمانة ومؤدي حقها من حيث إنهما صارتا سببا لحمل الأمانة صفتا مدح وفي حق الخائنين صفتا ذم، والشيء قد يكون ذما في حق شخص ومدحا في حق آخر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل ومنه الاستمداد في فهم كلامه العزيز الجليل.