ولقد آتينا داود منا فضلا أي آتيناه لحسن إنابته وصحة توبته
فضلا أي نعمة وإحسانا، وقيل فضلا وزيادة على سائر الأنبياء المتقدمين عليه أو أنبياء بني إسرائيل أو على ما عدا نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه ما من فضيلة في أحد من الأنبياء عليهم السلام إلا وقد أوتي عليه الصلاة والسلام مثلها بالفعل أو تمكن منها فلم يختر إظهارها أو على الأنبياء مطلقا، وقد يكون في المفضول ما ليس في غيره، وقد انفرد عليه السلام بما ذكر هاهنا، وقيل: أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن.
وتعقب بأنه إن أريد أن كلا منها فضل لا يوجد في سائر الناس فعدم مثل ملكه وصوته محل شبهة، وإن أريد المجموع من حيث هو نفيه أنه غير موجود في الأنبياء أيضا فلا وجه لتخصيصه بهذا الوجه، وأنا أرى الفضل لتفسير الفضل بالإحسان وتنكيره للتفخيم.
ومنا أي بلا واسطة لتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية كما في قوله تعالى:
وعلمناه من لدنا علما وتقديمه على المفعول الصريح للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن في النفس عند وروده فضل تمكن، وذكر شؤون
داود وسليمان عليهما السلام هنا لمناسبة ذكر المنيب في
[ ص: 113 ] قوله تعالى:
إن في ذلك لآية لكل عبد منيب كما أشرنا إليه.
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان : مناسبة قصتيهما عليهما السلام لما قبلها هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته في زعمهم فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره إذ طفحت ببعضه أخبارهم وأشعارهم، وقيل: ذكر سبحانه نعمته عليهما احتجاجا على ما منح نبينا صلى الله عليه وسلم كأنه قيل: لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديما بكذا وكذا فلما فرغ التمثيل له عليه الصلاة والسلام رجع التمثيل لهم بسبأ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو.
يا جبال أوبي معه أي سبحي معه قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة nindex.php?page=showalam&ids=16327وابن زيد ، وأخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
أبي ميسرة إلا أنه قال: معناه ذلك بلغة
الحبشة، والظاهر أنه عربي من التأويب، والمراد رجعي معه التسبيح وردديه، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13366ابن عطية : إن أصل ماضيه آب وضعف للمبالغة، وتعقبه في البحر بقوله ويظهر أن التضعيف للتعدية لأن آب بمعنى رجع لازم صلته اللام فعدي بالتضعيف إذ شرحوه بقولهم رجعي معه التسبيح.
يروى أنه عليه السلام كان إذا سبح سبحت الجبال مثل تسبيحه بصوت يسمع منها، ولا يعجز الله عز وجل أن يجعلها بحيث تسبح بصوت يسمع وقد سبح الحصى في كف نبينا عليه الصلاة والسلام وسمع تسبيحه وكذا في كف
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ولا يبعد على هذا أن يقال: إنه تعالى خلق فيها الفهم أولا فناداها كما ينادى أولو الفهم وأمرها، وقال بعضهم: إنه سبحانه نزل الجبال منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئته تعالى غير ممتنع على إرادته سبحانه، ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية حيث نادى الجبال وأمرها، وقيل: المراد بتأويبها حملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها، وفيه مع كونه خلاف المأثور أن ( معه ) يأباه، وأيضا لا اختصاص له عليه السلام بتأويب الجبال بهذا المعنى حتى يفضل به أو يكون معجزة له، وقيل: كان عليه السلام ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تسعده بأصدائها.
وفيه أن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما قام عليه البرهان، والله تعالى نادى الجبال وأمرها أن تؤوب معه، وأيضا أي اختصاص له عليه الصلاة والسلام بذلك ولصوت كل أحد صدى عند الجبال.
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن أن معنى
أوبي معه سيري معه أين سار، والتأويب سير النهار كأن الإنسان يسير الليل ثم يرجع السير بالنهار أي يردده، ومن ذلك قول
تميم بن مقبل: لحقنا بحي أوبوا السير بعد ما دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح
وقول آخر:
يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأويب
وأورد عليه أن الجبال أوتاد الأرض ولم ينقل سيرها مع
داود عليه السلام أو غيره، وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف فيه، فكانت إذا سبح سبحت وإذا ناح ناحت وإذا قرأ الزبور قرأت.
وتعقب بأنه لم يعرف التأويب بمعنى التصرف في لغة
العرب ، وقيل: المعنى ارجعي إلى مراده فيما يريد من حفر واستنباط أعين واستخراج معدن ووضع طريق، والجملة معمولة لقول مضمر، أي قولنا يا جبال على أنه بدل من
فضلا بدل كل من كل أو بدل اشتمال أو قلنا يا جبال على أنه بدل من
آتينا وجوز كونه بدلا من
فضلا بناء على أنه
[ ص: 114 ] يجوز إبدال الجملة من المفرد، وجوز
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان الاستئناف وليس بذاك.
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة وابن أبي إسحاق «أوبي» بضم الهمزة وسكون الواو أمر من الأوب وهو الرجوع، وفرق بينهما
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب بأن الأوب لا يقال إلا في الحيوان الذي له إرادة والرجوع يقال فيه وفي غيره.
والمعنى على هذه القراءة عند الجمهور ارجعي معه في التسبيح وأمر الجبال كأمر الواحدة المؤنثة لأن جمع ما لا يعقل يجوز فيه ذلك، ومنه يا خيل الله اركبي وكذا
مآرب أخرى [طه: 18] وقد جاء ذلك في جمع من يعقل من المؤنث قال الشاعر:
تركنا الخيل والنعم المفدى وقلنا للنساء بها أقيمي
لكن هذا قليل.
والطير بالنصب وهو عند
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبي عمرو بن العلاء بإضمار فعل تقديره وسخرنا له الطير، وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=12078أبو عبيدة عنه أن ذاك بالعطف على
فضلا ولا حاجة إلى الإضمار لأن إيتاءها إياه عليه السلام تسخيرها له، وذكر
الطيبي أن ذلك كقوله: علفتها تبنا وماء باردا، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي : بالعطف أيضا إلا أنه قدر مضافا أي وتسبيح لطير ولا يحتاج إليه، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : الطير معطوف على محل
جبال نحو قوله: ألا يا زيد
nindex.php?page=showalam&ids=14676والضحاك سيرا، بنصب
nindex.php?page=showalam&ids=14676الضحاك ، ومنعه بعض النحويين للزوم دخول يا على المنادى المعرف بأل.
والمجيز يقول: رب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : هو منصوب على أنه مفعول معه، وتعقبه
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان بأنه لا يجوز لأن قبله ( معه ) ولا يقتضي اثنين من المفعول معه إلا على البدل أو العطف فكما لا يجوز جاء زيد مع عمرو مع زينب إلا بالعطف كذلك هذا، وقال
الخفاجي : لا يأباه ( معه ) سواء تعلق ب أوبي على أنه ظرف لغو أو جعل حالا لأنهما معمولان متغايران، إذ الظرف والحال غير المفعول معه وكل منها باب على حده وإنما الموهم لذلك لفظ المعية، فما اعترض به
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان غير متوجه وإن ظن كذلك، وأقبح من الذنب الاعتذار حيث أجيب بأنه يجوز أن يقال حذفت واو العطف من قوله تعالى:
والطير استثقالا لاجتماع الواوين أو اعتبر تعلق الثاني بعد تعلق الأول.
وقرأ
السلمي nindex.php?page=showalam&ids=13617وابن هرمز وأبو يحيى وأبو نوفل
nindex.php?page=showalam&ids=17379ويعقوب nindex.php?page=showalam&ids=12356وابن أبي عبلة وجماعة من أهل
المدينة nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم في رواية «والطير» بالرفع، وخرج على أنه معطوف على
جبال باعتبار لفظه وحركته لعروضها تشبه حركة الإعراب ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، وقيل معطوف على الضمير المستتر في
أوبي وسوغ ذلك الفصل بالظرف، وقيل: هو بتقدير ولتؤوب الطير نظير ما قيل في قوله تعالى: ( اسكن أنت وزوجك الجنة ) [البقرة: 35، الأعراف: 19] .
وقيل: هو مرفوع بالابتداء والخبر محذوف أي والطير تؤوب
وألنا له الحديد وجعلناه في يده كالشمع والعجين يصرفه كما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي وغيره، وقيل: جعلناه بالنسبة إلى قوته التي آتيناها إياه لينا كالسمع بالنسبة إلى قوى سائر البشر.