هذا ومن باب الإشارة في الآيات:
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين نهى عن موالاة المؤمنين الكافرين لعدم المناسبة بينهم في الحقيقة ولفرق بين الظلمة والنور والظل والحرور، والولاية تقتضي المناسبة ومتى لم تحصل كانت الولاية عن محض رياء أو نفاق والله تعالى لا يحب المرائين ولا المنافقين، ومن هنا نهى أهل الله تعالى المريدين عن موالاة المنكرين لأن ظلمة الإنكار والعياذ بالله تعالى تحاكي ظلمة الكفر وربما تراكمت فسدت طريق الإيمان،
ومن يفعل ذلك فليس من ولاية
الله تعالى
في شيء معتد به إذ ليس فيه نورية صافية يناسب بها الحضرة الإلهية
إلا أن تتقوا منهم تقاة فحينئذ تجوز الموالاة ظاهرا، وهذا بالنسبة للضعفاء وأما من قوي يقينه فلا يخشى إلا الله تعالى
ويحذركم الله نفسه أي يدعوكم إلى التوحيد العياني لئلا يكون خوفكم من غيره
وإلى الله المصير فلا تحذروا إلا إياه، والأكثرون على أن هذا خطاب للخواص العارفين إذ لا يحذر نفسه من لا يعرفه، وقد حذر من دونهم بقوله سبحانه:
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله .
قال
إبراهيم الخواص: وعلامة الخوف في القلب دوام المراقبة وعلامة المراقبة التفقد للأحوال النازلة
قل إن تخفوا ما في صدوركم من الموالاة
أو تبدوه يعلمه الله لأنه مع كل نفس وخطرة
ويعلم ما في سماوات الأرواح وأرض الأجسام
والله على كل شيء قدير فلا يشغله شأن عن شأن ولا يقيده مظهر عن مظهر
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء لأن كل ما يعمله الإنسان أو يقوله ينتقش منه أثر في نفسه ويسطر في صحائف النفوس السماوية إلا أنه لاشتغاله بالشواغل الحسية والإدراكات الوهمية والخيالية لا يرى تلك النقوش ولا يبصر هاتيك السطور فإذا تجرد عن عالم الكثافة بصر ورأى وشاهد ما به قلم الاستعداد جرى، فإذا وجد سوءا
تود نفسه وتتمنى
لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا لتعذبها به
ويحذركم الله نفسه كرره تأكيدا لئلا يعملوا ما يستحقون به عقابه
والله رءوف بالعباد أي بسائرهم فلهذا حذرهم،
[ ص: 142 ] أو بمن اتصف بمقام العبودية وانقطع إليه بالكلية
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني لأني سيد المحبين
يحببكم الله وحقيقة المحبة عند العارفين احتراق القلب بنيران الشوق، وروح الروح بلذة العشق، واستغراق الحواس في بحر الأنس، وطهارة النفس بمياه القدس، ورؤية الحبيب بعين الكل، وغمض عين الكل عن الكونين، وطيران السر في غيب الغيب، وتخلق المحب بخلق المحبوب، وهذا أصل المحبة.
وأما فرعها فهو موافقة المحبوب في جميع ما يرضاه، وتقبل بلائه بنعت الرضا والتسليم في قضائه وقدره بشرط الوفا، ومتابعة سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وأما آدابها فالانقطاع عن الشهوات واللذات المباحة، والسكون في الخلوات والمراقبات، واستنشاق نفحات الصفات، والتواضع والذل في الحركات والسكنات:
مساكين أهل العشق حتى قبورهم عليها تراب الذل بين المقابر
وهذا لا يكون إلا بعد أن ترى الروح بعين السر مشاهدة الحق بنعت الجمال وحسن القدم لا بنعت الآلاء والنعم لأن المحبة متى كانت من تولد رؤية النعماء كانت معلولة، وحقيقة المحبة ما لا علة فيها بين المحب والحبيب سوى ذات الحبيب، ولذا قالوا: لا تصح المحبة ممن يميز بين النار والجنة وبين السرور والمحنة وبين الفرض والسنة وبين الاعتواض والاعتراض ولا تصح إلا ممن نسي الكل واستغرق في مشاهدة المحبوب وفني فيه:
خليلي لو أحببتما لعلمتما محل الهوى من مغرم القلب صبه
تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه وشوق على بعد المراد وقربه
وقد يقال: المحبة ثلاثة أقسام، القسم الأول: محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن، جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها وهو حب يتغير وهو لمتابعي الأعمال الذين يطلبون أجرا على ما يعملون، وفيه يقول
أبو الطيب: وما أنا بالباغي على الحب رشوة ضعيف هوى يرجى عليه ثواب
القسم الثاني: محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إجلالا وإعظاما ولأنه أهل لذلك، وإلى هذا القسم أشار صلى الله عليه وسلم بقوله:
" نعم العبد nindex.php?page=showalam&ids=52صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " ، وقالت
رابعة رحمها الله تعالى:
أحبك حبين حب الهوى وحب لأنك أهل لذاكا
وهذا الحب لا يتغير إلى الأبد لبقاء الجمال والجلال إلى السرمد .
القسم الثالث: محبة خواص الخواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكامن
«كنت كنزا مخفيا» وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة، وحقيقتها أن يفنى المحب بسطوتها فيبقى بلا هو وربما بقي صاحبها حيران سكران لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى، وفي مثل ذلك قيل:
يقولون إن الحب كالنار في الحشا ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد
وما هو إلا جذوة مس عودها ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد
ويكفي في شرح الحب لفظه، فإنه حاء وباء، والحاء من حروف الحلق، والباء شفوية، ففيه إشارة إلى أن الهوى ما لم يستول على قلبه ولسانه وباطنه وظاهره وسره وعلنه لا يقال له: حب، وشرح ذاك يطول، وهذه محبة العبد لربه، وأما محبة ربه سبحانه له فمختلفة أيضا، وإن صدرت من محل واحد فتعلقت بالعوام من حيث
[ ص: 143 ] الرحمة، فكأنه قيل لهم: اتبعوني بالأعمال الصالحة يخصكم الله تعالى برحمته، وتعلقت بالخواص من حيث الفضل، فكأنه قيل لهم: اتبعوني بمكارم الأخلاق يخصكم بتجلي صفات الجمال، وتعلقت بخواص الخواص من حيث الجذبة، فكأنه قيل لهم: اتبعوني ببذل الوجود يخصكم بجذبه لكم إلى نفسه، وهناك يرتفع البون من البين، ويظهر الصبح لذي عينين والقطرة من هذه المحبة تغني عن الغدير:
وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ترى الدهر عبدا طائعا وله الحكم
ويغفر لكم ذنوبكم أي معاصيكم التي سلفت منكم على خلاف المتابعة ولا يعاقبكم عليها، أو يغفر لكم ذنوبكم بستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته، أو يغفر لكم ذنوب وجودكم ويثيبكم مكانه وجودا لا يفنى كما قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=656021 " فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به " الحديث،
والله غفور يكفر خطاياكم ويمحو ذنوب صفاتكم ووجودكم
رحيم يهب لكم عوض ذاك حسنات وصفات ووجودا حقانية خيرا من ذلك.
قل أطيعوا الله والرسول فإن المريد يلزمه متابعة المراد
فإن تولوا أي فإن أعرضوا فهم كفار منكرون محجوبون
فإن الله لا يحب الكافرين لقصور استعدادهم عن ظهور جماله فيهم
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين الاصطفاء أعم من المحبة والخلة فيشمل الأنبياء كلهم وتتفاضل فيه مراتبهم كما يشير إليه قوله تعالى:
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض فأخص المراتب هو المحبة، وإليه يشير قوله تعالى:
ورفع بعضهم درجات ثم الخلة، وفي لفظها إشارة إلى ذلك من طريق مخارج الحروف، وأعمها الاصطفاء، فاصطفى
آدم بتعليم الصفات وجمع اليدين وإسجاد الأكوان له،
ونوحا الذي هو الأب الثاني بتلك الأبوة وبما كان له مع قومه، واصطفى آل
إبراهيم وهم الأنبياء من ذريته بظهور أنوار تجليه الخاص على آفاق وجودهم، وآل
عمران بجعلهم آية للعالمين ذرية بعضها من بعض في الدين والحقيقة إذ الولادة قسمان: صورية ومعنوية، وكل نبي تبع نبيا في التوحيد والمعرفة وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ والولد سر أبيه، ويمكن أن يقال:
آدم هو الروح في أول مقامات ظهورها،
ونوح هو هي في مقامها الثاني من مقامات التنزل،
وإبراهيم هو القلب الذي ألقاه
نمرود النفس في نيران الفتن ورماه فيها بمنجنيق الشهوات، وآله القوى الروحانية،
وعمران هو العقل الإمام في
بيت مقدس البدن، وآله التابعون له في ذلك البيت المقتدون به، وكل ذلك ذرية بعضها من بعض لوحدة المورد واتفاق المشرب .
إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا عن رق النفس مخلصا في عبادتك عن الميل إلى السوي
فتقبلها ربها بقبول حسن قال
الواسطي: محفوظ عن إدراك الخلق
وأنبتها نباتا حسنا حيث سقاها من مياه القدرة وأثمرها شجرة النبوة
وكفلها زكريا لطهارة سره، وشبيه الشيء منجذب إليه
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا هو ما علمت، ويجوز أن يراد الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله تعالى إذ الاختصاص بالعندية يدل على كونه أشرف من الأرزاق البدنية.
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم من بعض الطرق عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد، أنه قال: رزقا أي علما، وقد يقال على نحو الأول ليتم تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس
إذ قالت امرأت عمران وهي النفس في أول مراتب طاعتها لعمران العقل
إني نذرت لك ما في بطني وهو غلام القلب
محررا ليس في رق شيء من المخلوقات
فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى وهي نفس أيضا إلا أنها أكمل منها في المرتبة، والجنس يلد الجنس
والله أعلم بما وضعت لعلمه أنه سيظهر من هذه الأنثى العجب العجاب، وغيره سبحانه تخفى عليه الأسرار
وإني سميتها مريم وهي العابدة
[ ص: 144 ] وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم وهو الشهوات النفسانية الحاجبة للنفس القدسية عن رياض الملكوت
فتقبلها ربها بقبول حسن وهو اختصاصه إياها بإفاضة أنواره عليها
وأنبتها نباتا حسنا ورقاها فيما تكمل به نشأتها ترقيا حسنا غير مشوب بالعوائق والعلائق
وكفلها زكريا الاستعداد
كلما دخل عليها زكريا وتوجه نحوها في محراب تعبدها المبني لها في
بيت مقدس القلب
وجد عندها رزقا تتغذى به الأرواح في عالم الملكوت
قال يا مريم أنى لك هذا الرزق العظيم
قالت هو مفاض
من عند الله منزه عن الحمل بيد الأفكار
إن الله الجامع لصفات الجمال والجلال
يرزق من يشاء ويفيض عليهم من علمه حسب قابليتهم
بغير حساب فسبحانه من إله وجواد كريم وهاب.