وإذ قالت الملائكة تتمة لشرح أحكام اصطفاء آل
عمران، ووقعت قصة
زكريا ويحيى عليهما السلام في البين لما فيها مما يؤكد ذلك الاصطفاء، و (إذ) في المشهور منصوب بالذكر، والجملة معطوفة على الجملة السابقة عطف القصة على القصة وبينهما كمال المناسبة لأن تلك مسوقة أولا وبالذات لشرح حال الأم وهذه لشرح حال البنت، والمراد من الملائكة رئيسهم
جبريل عليه السلام، والكلام هنا كالكلام فيما تقدم، وجوز
nindex.php?page=showalam&ids=14803أبو البقاء كون الظرف معطوفا على الظرف السابق وناصبه ناصبه، والأول أولى، والمراد: اذكر أيضا من شواهد اصطفاء أولئك الكرام وقت قول الملائكة عليهم السلام
يا مريم إن الله اصطفاك أي اختارك من أول الأمر ولطف بك وميزك على كل محرر وخصك بالكرامات السنية، والتأكيد اعتناء بشأن الخبر، وقول الملائكة لها ذلك كان شفاها على ما دلت عليه الأخبار ونطقت به الظواهر، وفي بعض الآثار ما يقتضي تكرر هذا القول من الملائكة لها، فقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق أنه قال: كانت
مريم حبيسا في الكنيسة ومعها فيها غلام اسمه
يوسف وقد كان أمه وأبوه جعلاه نذيرا حبيسا فكانا في الكنيسة جميعا وكانت
مريم إذا نفد ماؤها وماء
يوسف أخذا قلتيهما فانطلقا إلى المغارة التي فيها الماء فيملآن ثم يرجعان، والملائكة في ذلك مقبلة على
مريم بالبشارة
يا مريم إن الله اصطفاك الآية، فإذا سمع ذلك
زكريا عليه السلام، قال: إن
لابنة عمران لشأنا، وقيل: إن الملائكة عليهم السلام ألهموها ذلك، ولا يخفى أن تفسير القول بالإلهام وإسناده للملائكة خلاف الظاهر وإن كان لا منع من أن يكون بواسطتهم أيضا على أنه قول لا يعضده خبر أصلا، وعلى القول الأول يكون التكليم من باب الكرامة التي يمن بها الله سبحانه على خواص عباده، ومن أنكرها زعم أن ذلك إرهاص وتأسيس لنبوة
عيسى عليه السلام أو معجزة
لزكريا عليه السلام.
وأورد على الأول أن الإرهاص في المشهور أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة كإظلال الغمام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم الحجر معه، وهذا بظاهره يقتضي وقوع الخارق على يد النبي لكن قبل أن ينبأ لا على يد غيره كما فيما نحن فيه، ويمكن أن يدفع بالعناية; وأورد على الثاني بأنه بعيد جدا إذ لم يقع الكلام مع
زكريا عليه السلام ولم يقترن ذلك بالتحدي أيضا فكيف يكون معجزة له.
واستدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة
مريم لأن تكليم الملائكة يقتضيها، ومنعه
اللقاني بأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبي إجماعا فقد روي أنهم كلموا رجلا خرج لزيارة أخ له في الله تعالى وأخبروه أن الله سبحانه يحبه كحبه لأخيه فيه، ولم يقل أحد بنبوته، وادعى أن من توهم أن النبوة مجرد الوحي ومكالمة الملك فقد حاد عن الصواب.
ومن الناس من استدل على عدم استنباء النساء بالإجماع وبقوله تعالى:
وما أرسلنا قبلك إلا رجالا ولا يخفى ما فيه، أما أولا: فلأن حكاية الإجماع في غاية الغرابة فإن الخلاف في نبوة نسوة
كحواء وآسية وأم موسى وسارة وهاجر ومريم موجود خصوصا
مريم فإن القول بنبوتها شهير، بل مال الشيخ
تقي الدين السبكي في «الحلبيات»،
وابن السيد إلى ترجيحه، وذكر أن ذكرها مع الأنبياء في سورتهم قرينة قوية لذلك.
وأما ثانيا: فلأن الاستدلال بالآية لا يصح لأن المذكور فيها الإرسال وهو أخص من الاستنباء على الصحيح المشهور، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فافهم.
وطهرك أي من الأدناس والأقذار التي تعرض للنساء
[ ص: 155 ] مثل الحيض والنفاس حتى صرت صالحة لخدمة المسجد، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن nindex.php?page=showalam&ids=15992وابن جبير أن المراد طهرك بالإيمان عن الكفر وبالطاعة عن المعصية، وقيل: نزهك عن الأخلاق الذميمة والطباع الرديئة، والأولى الحمل على العموم أي طهرك من الأقذار الحسية والمعنوية والقلبية والقالبية.
واصطفاك على نساء العالمين [ 42 ] يحتمل أن يراد بهذا الاصطفاء غير الاصطفاء الأول وهو ما كان آخرا من هبة
عيسى عليه السلام لها من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء، وجعلها وإياه آية للعالمين، ويحتمل أن يراد به الأول وكرر للتأكيد وتبيين من اصطفاها عليهن، وعلى الأول يكون تقديم حكاية هذه المقاولة على حكاية بشارتها
بعيسى عليه السلام للتنبيه على أن كلا منهما مستحق للاستقلال بالتذكر وله نظائر قد مر بعضها، وعلى الثاني لا إشكال في الترتيب وتكون حكمة تقدم هذه المقاولة على البشارة الإشارة إلى كونها عليها السلام قبل ذلك مستعدة لفيضان الروح عليها بما هي عليه من التبتل والانقياد حسب الأمر، ولعل الأول أولى، كما قال
الإمام لما أن التأسيس خير من التأكيد.
والمراد من نساء العالمين قيل: جميع النساء في سائر الأعصار، واستدل به على
أفضليتها على
nindex.php?page=showalam&ids=129فاطمة وخديجة
nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة رضي الله تعالى عنهن، وأيد ذلك بما أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=13359ابن عساكر في أحد الطرق عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=942519 " سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران، ثم nindex.php?page=showalam&ids=129فاطمة، ثم nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة، ثم آسية امرأة فرعون "، وبما أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة عن
مكحول، وقريب منه ما أخرجه الشيخان عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=56423 " خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على بعل في ذات يده ولو علمت أن مريم ابنة عمران ركبت بعيرا ما فضلت عليها أحدا " ، وبما أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=129فاطمة صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم أنها قالت:
" قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول ".
وقيل: المراد نساء عالمها فلا يلزم منه أفضليتها على
nindex.php?page=showalam&ids=129فاطمة رضي الله تعالى عنها، ويؤيده ما أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=13359ابن عساكر من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=17131مقاتل عن
nindex.php?page=showalam&ids=14676الضحاك عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أربع نسوة سادات عالمهن، مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، nindex.php?page=showalam&ids=10640وخديجة بنت خويلد، nindex.php?page=showalam&ids=129وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهن عالما nindex.php?page=showalam&ids=129فاطمة "، وما رواه
الحرث بن أسامة في «مسنده» بسند صحيح، لكنه مرسل
"مريم خير نساء عالمها" وإلى هذا ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=11962أبو جعفر رضي الله تعالى عنه وهو المشهور عن أئمة أهل البيت.
والذي أميل إليه أن
nindex.php?page=showalam&ids=129فاطمة البتول أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات من حيث إنها بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ومن حيثيات أخر أيضا، ولا يعكر على ذلك الأخبار السابقة لجواز أن يراد بها أفضلية غيرها عليها من بعض الجهات وبحيثية من الحيثيات وبه يجمع بين الآثار وهذا سائغ على القول بنبوة
مريم أيضا إذ البضعية من روح الوجود وسيد كل موجود لا أراها تقابل بشيء .
وأين الثريا من يد المتناول
ومن هنا يعلم أفضليتها على
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله تعالى عنها الذاهب إلى خلافها الكثير محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم:
" خذوا ثلثي دينكم عن الحميراء "، وقوله عليه الصلاة والسلام:
nindex.php?page=hadith&LINKID=653179 " فضل nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام "، وبأن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة يوم القيامة في الجنة مع زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=showalam&ids=129وفاطمة يومئذ فيها مع زوجها
nindex.php?page=showalam&ids=8علي كرم الله تعالى وجهه، وفرق عظيم بين مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام
nindex.php?page=showalam&ids=8علي كرم الله تعالى وجهه.
وأنت تعلم ما في هذا الاستدلال وأنه ليس بنص على أفضلية الحميراء على الزهراء؛ أما أولا: فلأن
[ ص: 156 ] قصارى ما في الحديث الأول على تقدير ثبوته إثبات أنها عالمة إلى حيث يؤخذ منها ثلثا الدين، وهذا لا يدل على نفي العلم المماثل لعلمها عن بضعته عليه الصلاة والسلام، ولعلمه صلى الله عليه وسلم أنها لا تبقى بعده زمنا معتدا به يمكن أخذ الدين منها فيه لم يقل فيها ذلك، ولو علم لربما قال: خذوا كل دينكم عن الزهراء، وعدم هذا القول في حق من دل العقل والنقل على علمه لا يدل على مفضوليته وإلا لكانت
عائشة أفضل من أبيها رضي الله تعالى عنه لأنه لم يرو عنه في الدين إلا قليل لقلة لبثه وكثرة غائلته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن قوله عليه الصلاة والسلام:
nindex.php?page=hadith&LINKID=691624 "إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي لا يفترقان حتى يردا على الحوض "، يقوم مقام ذلك الخبر وزيادة، كما لا يخفى كيف لا
nindex.php?page=showalam&ids=129وفاطمة رضي الله تعالى عنها سيدة تلك العترة؟!.
وأما ثانيا: فلأن الحديث الثاني معارض بما يدل على أفضلية غيرها رضي الله تعالى عنها عليها، فقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
عمار بن سعد أنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=889496قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فضلت nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين "، بل هذا الحديث أظهر في الأفضلية وأكمل في المدح عند من انجاب عن عين بصيرته عين التعصب والتعسف لأن ذلك الخبر وإن كان ظاهرا في الأفضلية لكنه قيل ولو على بعد: إن أل في النساء فيه للعهد; والمراد بها الأزواج الطاهرات الموجودات حين الإخبار ولم يقل مثل ذلك في هذا الحديث.
وأما ثالثا: فلأن الدليل الثالث يستدعي أن يكون سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام لأن مقامهم بلا ريب ليس كمقام صاحب المقام المحمود صلى الله عليه وسلم فلو كانت الشركة في المنزل مستدعية للأفضلية لزم ذلك قطعا ولا قائل به.
وبعد هذا كله الذي يدور في خلدي أن أفضل النساء
nindex.php?page=showalam&ids=129فاطمة ثم أمها ثم
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة، بل لو قال قائل إن سائر بنات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة لا أرى عليه بأسا; وعندي بين
مريم nindex.php?page=showalam&ids=129وفاطمة توقف نظرا للأفضلية المطلقة، وأما بالنظر إلى الحيثية فقد علمت ما أميل إليه، وقد سئل الإمام
السبكي عن هذه المسألة فقال: الذي نختاره وندين الله تعالى به أن
nindex.php?page=showalam&ids=129فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم أفضل ثم أمها ثم
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة، ووافقه في ذلك
البلقيني وقد صحح
ابن العماد أن
nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة أيضا أفضل من
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال
nindex.php?page=showalam&ids=25لعائشة حين قالت:
nindex.php?page=hadith&LINKID=704564 "قد رزقك الله تعالى خيرا منها، فقال لها: لا والله ما رزقني الله تعالى خيرا منها، آمنت بي حين كذبني الناس وأعطتني مالها حين حرمني الناس "، وأيد هذا بأن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة أقرأها السلام النبي صلى الله عليه وسلم من
جبريل، nindex.php?page=showalam&ids=10640وخديجة أقرأها السلام
جبريل من ربها، وبعضهم لما رأى تعارض الأدلة في هذه المسألة توقف فيها وإلى التوقف مال
القاضي أبو جعفر الأستروشني منا، وذهب
ابن جماعة إلى أنه المذهب الأسلم.
وأشكل ما في هذا الباب حديث الثريد ولعل كثرة الأخبار الناطقة بخلافه تهون تأويله، وتأويل واحد لكثير أهون من تأويل كثير لواحد، والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل.