لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء استئناف مسوق لتحقيق الحق وإبطال القول بأن الملائكة بنات الله
وعيسى ابنه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقه سبحانه على الإطلاق ليندرج فيه استحالة ما قيل اندراجا أوليا، وحاصل المعنى: لو أراد الله سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ، لكن لا يجوز للباري إرادة ممتنعة، لأنها ترجح بعض الممكنات على بعض.
وأصل الكلام: لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الألوهية، فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ ثم حذف هذا الجواب وجيء بدله لاصطفى، تنبيها على أن الممكن هذا لا الأول، وإنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شيء لجاز الولد عليه سبحانه وتعالى شأنه عن ذلك، فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم وإثبات الملزوم، دون صعوبة، ويجوز أن يكون المراد: لو أراد الله أن يتخذ لامتنع، ولم يصح، لكن على إرادة نفي الصحة على كل تقدير من تقديري الإرادة وعدمها من باب: لو لم يخف الله لم يعصه، فلا ينفى الثاني إذ ذاك، ولا يحتاج إلى بيان الملازمة، وإذا امتنع ذلك فالممكن الاصطفاء، وقد اصطفى سبحانه من
[ ص: 237 ] مخلوقاته من شاء كالملائكة،
وعيسى، وذهب عليكم أن الاصطفاء ليس باتخاذ، والجواب على هذا الوجه أيضا محذوف أقيم مقامه ما يفيد زيادة مبالغة، وإنما لم يجعل (لاصطفى) هو الجواب عليه لصيرورة المعنى حينئذ: لو أراد اتخاذ الولد لاصطفى، ولو لم يرد لاصطفى، من طريق الأولى، وحينئذ يكون إثبات الاصطفاء هو المطلوب من الإيراد، كما أن التمدح بنفي العصيان في مثال الباب هو المطلوب، وليس الكلام فيه، وعلى الوجهين هو من أسلوب:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وجوز أن يكون المعنى في الآية: لو أراد الله تعالى أن يتخذ ولدا لجعل المخلوق ولدا، إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له تعالى، والتالي محال للمباينة التامة بين المخلوق والخالق، والولدية تأبى تلك المباينة، فالمقدم مثله، ويكون قوله تعالى:
لاصطفى مما يخلق ما يشاء على معنى: لاتخذه ابنا على سبيل الكناية وما تقدم أولى لما فيه من المبالغة التي نبهت عليها، وقوله تعالى:
سبحانه تقرير لما ذكر من استحالة اتخاذ الولد في حقه تعالى، وتأكيد له ببيان تنزهه سبحانه عنه، أي تنزهه الخاص به تعالى على أن سبحانه مصدر من سبح، إذا بعد أو أسبحه تسبيحا لائقا به، لأنه علم التسبيح مقول على ألسنة العباد، أو سبحوه تسبيحا لائقا بشأنه جل شأنه، وقوله تعالى:
هو الله الواحد القهار استئناف مقرر لتنزهه عن ذلك أيضا، فإن اتخاذ الولد يقتضي تبعضا، وانفصال شيء من شيء، وكذا يقتضي المماثلة بين الولد والوالد، والوحدة الذاتية الحقيقية التي هي في أعلى مراتب الوحدة الواجبة له تعالى بالبراهين القطعية العقلية تأبى التبعض والانفصال إباء ظاهرا، لأنهما من خواص الكم، وقد اعتبر في مفهوم الوحدة الذاتية سلبه، فتأبى الاتخاذ المذكور، وكذا تأبى المماثلة، سواء فسرت بما ذهب إليه قدماء
المعتزلة كالجبائي وابنه
أبي هاشم، وهي المشاركة في أخص صفات الذات كمشاركة زيد لعمرو في الناطقية، أم فسرت بما ذهب إليه المحققون من
الماتريدية، وهي المشاركة في جميع الصفات الذاتية كمشاركته له في الحيوانية والناطقية، أم فسرت بما نسب إلى الأشعري، وهو التساوي بين الشيئين من كل وجه، ولعل مراده نحو ما مر عن
الماتريدي، وإلا فمع التساوي من كل وجه ينتفي التعدد فينتفي التماثل بناء على ما قرروا من أن الوحدة الذاتية كما تقتضي نفي الأبعاض المقدارية تقتضي نفي الكثرة العقلية، وأن التماثل يقتضي التعدد، وهو يقتضي ثبوت الأجزاء المذكورة كذا قيل، وفيه بحث طويل، وكلام غير قليل، وسنذكر بعضا منه إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الإخلاص، فالأولى أن يقتصر على منافاة الوحدة الذاتية للتبعض والانفصال لاستلزامهما التركب الخارجي، والحكماء والمتكلمون مجمعون على استحالته في حقه تعالى، ودليلها أظهر من أن يذكر، وكذا وصف القهارية يأبى اتخاذ الولد، وقرر ذلك على أوجه، فقيل: وجه إبائها ذلك أن القهارية تقتضي الغنى الذاتي الذي هو أعلى مراتب الغنى، وهو يقتضي التجرد عن المادة، وتولد الولد عن الشيء يقتضيها، وقيل: إن القهارية تقتضي كمال الغنى، وهو يقتضي كمال التجرد الذي هو البساطة من كل الوجوه، فلا يكون هناك جنس وفصل ومادة وصورة وأعراض وأبعاض إلى غير ذلك مما يخل بالبساطة الكاملة الحقيقية، واتخاذ الولد لما فيه من الانفصال والمثلية مخل بتلك البساطة، فيخل بالغنى، فيخل بالقهارية، وقد أشار سبحانه إلى أن الغنى ينافي أن يكون له سبحانه ولد بقوله تعالى:
قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني وقيل: إن اتخاذ الولد
[ ص: 238 ] يقتضي انفصال شيء عنه تعالى، وذلك يقتضي أن يكون متأثرا مقهورا لا مؤثرا قهارا، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فحيث كان - جل وعلا - قهارا كما هو مقتضى الألوهية استحال أن يكون له - عز وجل - ولد، وقيل: إن القهارية منافية للزوال لأن القهار لو قبله كان مقهورا، إذ المزيل قاهر له، ولذا قيل: سبحان من قهر العباد بالموت.
والولد من أعظم فوائده عندهم قيامه مقام الأب بعد زواله، فإذا لم يكن الزوال لم يكن حاجة إلى الولد، وهذا مع كونه إلزاميا لا يخلو عن بحث كما لا يخفى.
nindex.php?page=showalam&ids=14423والزمخشري جعل قوله تعالى:
سبحانه هو الله إلخ، متصلا بقوله - عز وجل -:
والذين اتخذوا من دونه أولياء إلخ، على أنه مقرر نفي أن يكون له تعالى ولي، ونفى أن يكون له ولد، ولعل بيان ذلك لا يخفى، فتدبر.