وقوله سبحانه:
خلق السماوات والأرض بالحق إثبات لما ذكر أولا من الوحدة والقهر، وفيه أيضا ما ستعلمه إن شاء الله تعالى أي خلق هذا العالم المشاهد ملتبسا بالحق والصواب مشتملا على الحكم والمصالح.
وقوله تعالى:
يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل بيان لكيفية تصرفه فيما ذكر بعد بيان الخلق، فإن حدوث الليل والنهار منوط بتحريك أجرام سماوية، والتكوير في الأصل هو اللف واللي من كار العمامة على رأسه وكورها، والمراد على ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة : يغشى أحدهما الآخر، وهو على ما قيل معنى يذهب أحدهما، ويغشى مكانه الآخر، أي يلبسه مكانه، فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا، وبالعكس فالمغشي حقيقة المكان، ويجوز أن يكون المغشي الليل والنهار على الاستعارة، ويكون المكان ظرفا، والمقصود أنه لما كان أحدهما غاشيا للآخر أشبه اللباس الملفوف على لابسه في ستره إياه، واشتماله عليه وتغطيه به.
وتحقيقه أن أحدهما لما كان محيطا على جميع ما أحاط به الآخر من غير أن يكون ثم شيء زائد غير الظهور والخفاء جعل إحاطته على محاط الآخر إحاطة عليه مجاز ملابسته، وعبر عنها بالغشيان والتكوير للشبه المذكور.
وجوز أن يكون المراد أن كل واحد من الليل والنهار يغيب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار، ورجح الأول بأن فيه مع اعتبار الستر اعتبار اللي، وإحاطة الأطراف، ثم إن هذا لظهوره تشبيه مبذول، وأن يكون المراد أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض، قيل: وهو الأرجح، لأنه اعتبر فيه ما اعتبر مع الأول مع النظر إلى المطرد فيه لفظ الكور، فإنه لف بعد لف، وهو أيضا كذلك، إلا أن أكوار العمامة متظاهرة، وفيما نحن فيه متعاورة، وهذا مما لا بأس به، فإن كل لية تسمى كورا حقيقة.
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ،
nindex.php?page=showalam&ids=11970وابن أبي حاتم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن المعنى يحمل أحدهما على الآخر، وفسر هذا الحمل بالضم، والزيادة، أي يزيد الليل على النهار، ويضمه إليه بأن يجعل بعض أجزاء الليل نهارا، فيطول النهار، ويقصر الليل، ويزيد النهار على الليل، ويضمه إليه بأن يجعل سبحانه بعض أجزاء النهار ليلا، فيطول الليل ويقصر النهار.
وإلى هذا ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب ، وهو معنى واضح، والآية عليه كقوله تعالى:
يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، في قول، وذكر بعض الفضلاء أنها على المعنى الأول فيها شيء من قوله تعالى:
جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر ، وعلى المعنى الثاني فيها شيء من قوله تعالى:
والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وعلى الثالث شيء من قوله سبحانه:
يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا ، وأنها يحتمل أن يكون فيها الاستعارة التبعية، والمكنية،
[ ص: 239 ] والتخييلية، والتمثيلية، والتمثيل أولى بالاعتبار، وأيا ما كان فصيغة المضارع للدلالة على التجدد.
وسخر الشمس والقمر جعلهما منقادين لأمره - عز وجل -
كل يجري لأجل مسمى بيان لكيفية تسخيرهما أي كل منهما يجري لمنتهى دورته، أو منقطع حركته، وقد مر تمام الكلام عليه، وفيه دليل على أن الشمس متحركة، وزعم بعض الكفرة أنها ساكنة وأنها مركز العالم، وسمعت في هذه الأيام أنه ظهر في
الإفرنج منذ سنتين تقريبا من يزعم أنها تتحرك على مركز آخر كما تتحرك الأرض عليها نفسها بزعمهم، وزعم بعض المتقدمين، ولهم في الهيئة كلام غير هذا، وفيه الغث والسمين، إلا أن نفيهم السماوات الناطقة بها الشرائع بالكلية من العجب العجاب، وأنظارهم السخيفة تفضي بهم إلى ما هو أعجب من ذلك عند ذوي العقول السليمة، نسأل الله تعالى السلامة والتوفيق، ولي عزم على تأليف كتاب أبين فيه إن شاء الله تعالى ما هو الأقرب إلى الحق من الهيئتين القديمة والجديدة متحركا على محور الإنصاف ساكتا عن سلوك مسالك الاعتساف، والله تعالى الموفق لذلك.
ألا هو العزيز القادر على عقاب المصرين
الغفار لذنوب التائبين، أو الغالب الذي يقدر أن يعاجلهم بالعقوبة، وهو سبحانه يحلم عليهم، ويؤخرهم إلى أجل مسمى، فيكون قد سمي الحلم عنهم، وقد ترك تعجيل العقوبة بالمغفرة التي هي ترك العقاب على طريق الاستعارة للمناسبة بينهما في الترك. وجوز كون ذلك من باب المجاز المرسل، والأول أبلغ وأحسن، وهذان الوجهان في
العزيز الغفار قد ذكرهما
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، وظن بعضهم أن الداعي للأول رعاية مذهب الاعتزال حيث خص فيه المغفرة بذنوب التائبين، فتركه، وقال: العزيز القادر على كل ممكن، الغالب على كل شيء، الغفار حيث لم يعاجل بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة، وما علينا أن نفسر كما فسر، ونقول بأن مغفرته تعالى لا تخص التائبين، بل قد يغفر جل شأنه لغيرهم إلا أن التقييد ليلائم ما تقدم أتم ملاءمة، ففي الكشف أن الوجه الأول من ذينك الوجهين المذكورين يناسب قوله تعالى:
خلق السماوات والأرض بالحق من وجهين أحدهما ما فيه من الدلالة على كمال القدرة وكمال الرحمة المقتضي لعقاب المصر، وغفران ذنوب التائب، وثانيهما أن قوله تعالى:
خلق السماوات إلخ، مسوق لأمرين إثبات الوحدة والقهر المذكورين فيما قبل نفيا للولد، بل حسما للشرك من أصله، والتسلق إلى ما مهد أولا من العبادة والإخلاص لئلا يزول عن الخاطر، فقيل:
بالحق كما قيل هنالك:
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق وأدمج فيه أن إنزال الكتاب كما يدل على استحقاقه تعالى للعبادة، فكذلك خلق السماوات والأرض بالحق والحكمة التي منها الجزاء على ما سلف، فالتذييل بالا هو العزيز الغفار للترغيب في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص والتحذير عن خلاف ذلك، سواء خالف أصل الدين كالكفر، أو خالف الإخلاص فيه كسائر المعاصي في غاية الملاءمة، وإنما أفرد مخالفة الدين بالذكر صريحا في قوله تعالى: "والذين اتخذوا" إلخ، تحذيرا من حالهم، لأنها هاتكة لعصمة النجاة، فكانت أحق بالتحذير، ورمز إلى هذا الثاني بالتذييل المذكور تكميلا للمعنى المراد، ومدار هذه السورة الكريمة على الأمر بالعبادة والإخلاص والتحذير من الكفر والمعاصي، والوجه الثاني من ذينك الوجهين يناسب حديث الشرك، والتذييل به، لتوكيد تفظيع ما نسبوا إليه، ولما ذكر تنزيل الكتاب وعقب بالأوصاف المقتضية للعبادة والإخلاص ذيله بقوله سبحانه:
[ ص: 240 ] "ألا لله الدين الخالص" على ما تحقق وجهه، وقد نقلناه نحن عنه فيما مر، ثم لما ذكر بعده عظيم ما نسبوا إليه سبحانه: من الشرك، والأولاد، وما دل على تنزهه تعالى بالألوهية ناسب أن يذيله بقوله تعالى: "ألا هو العزيز الغفار" للتوكيد المذكور، وقد آثر هذا العلامة
الطيبي ، ويعلم مما ذكرنا وجه رجحان الأول اهـ، والوجه الثاني من وجهي المناسبة على الوجه الأول أولى الوجهين، والآية على ما ذكره البعض يجوز ارتباطها بما عندها من الخلق والتكوير والتسخير،