قوله تعالى :
وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقبحا وأجلب للخزي والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطهما وفيه نظر ولعل إرادة الظاهر أولى ، ولعل تخصيص السؤال بالجلود لأنها بمرأى منهم بخلاف السمع والبصر أو لأنها هي مدركة العذاب بالقوة المودعة فيها كما يشعر به قوله تعالى :
كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [النساء : 56] قال
الجلبي ، ثم نقل عن العلامة الثاني في ذلك أن الشهادة من الجلود أعجب وأبعد إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر ، وتعقبه بقوله : فيه نظر فإن الجلد محل القوة اللامسة التي هي أهم الحواس للحيوان كما أن السمع والبصر محل السامعة والباصرة والذي ينطق الأعيان دون الأعراض ثم إن اللامسة تشتمل على الذائقة التي هي الأهم بعد اللامسة ، ثم قال : ويلوح بما قررناه وجه آخر للتخصيص فإن الأهمية للإنسان والاشتمال على أهم من غيرها يصلح أن يكون مخصصا ، فانقلاب ما يرجون منه أكمل النفع أعجب ومثله أحق بالتوبيخ من غيره . واعترض عليه بأن رده على العلامة لم يصادف محزه إذ ليس المراد مما ذكره من أنها ليس من شأنها الإدراك إلا إدراك أنواع المعاصي التي يشهد عليها كالكفر والكذب والقتل والزنا مثلا وإدراك مثلها منحصر في السمع والبصر .
وأنت تعلم بعد طي كشح البحث في هذا الجواب أن ما ذكره العلامة لا يناسب ظاهر السؤال أعني
لم شهدتم علينا وأولى ما قيل من أوجه التخصيص : إن المدافعة عن الجلود أزيد من المدافعة عن السمع والبصر فإن جلد الإنسان الواحد لو جزئ لزاد على ألف سمع وبصر وهو يدافع عن كل جزء ويحذر أن يصيبه ما يشينه فكانت الشهادة من الجلود عليهم أعجب وأبعد عن الوقوع .
وفي الحديث -
إن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى ثم تنطق الجوارح فيقول : تبا لك فعنك كنت أدافع ، ووجه إفراد السمع قد مر أول التفسير ، ووجه الاقتصار على السمع والبصر والجلد أشار إليه
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان قال : لما كانت الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس وكان الذوق مندرجا في اللمس إذ بمماسة جلد اللسان الرطب للمذوق يحصل إدراك طعم المذوق وكان حس الشم ليس فيه تكليف لا أمر ولا نهي وهو ضعيف اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس ، وللبحث فيه مجال . وكأني بك تختار أن المراد بالجلود ما سوى السمع والأبصار وأن ذكر السمع لما أنه وسيلة إدراك أكثر الآيات التنزيلية وذكر الأبصار لما أنها وسيلة إدراك أكثر الآيات التكوينية .
[ ص: 116 ] وقد أشير إلى كل في قوله تعالى :
وأما ثمود فهديناهم على وجه ، وأن شهادتهما فيما يتعلق بالكفر ، فيشهد السمع عليهم أنهم كذبوا بالآيات التنزيلية التي جاء بها الرسل وسمعوها منهم ، والأبصار أنهم لم يعبئوا بالآيات التكوينية التي أبصروها وكفروا بما تدل عليه ، ولعل شهادة الجلود فيما يتعلق بما سوى الكفر من المعاصي التي نهى عنها الرسل عليهم السلام كالزنا مثلا ، وجوز أن تكون شهادة السمع بإدراك الآيات التنزيلية والأبصار بإدراك الآيات التكوينية والجلود بالكفر بما يقتضيه كل وبالمعاصي الآخر ، ولا بعد في شمول ما ( كانوا يعملون ) لإدراك الآيات والإحساس بها بقسميها فتدبر .
ولعل قوله تعالى :
لم شهدتم سؤال عن العلة الموجبة ، وصيغة جمع العقلاء في
شهدتم وما بعد مع أن المراد منه ليس من ذوي العقول لوقوع ذلك في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15948زيد بن علي «لم شهدتن » بضمير المؤنثات
قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء أي أنطقنا الله تعالى وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح وما كتمنا ، وحيث كان معنى السؤال لأي علة موجبة شهدتم ؟ صلح ما ذكر جوابا له ، وقيل : لا قصد هنا للسؤال أصلا وإنما القصد إلى التعجب ابتداء لأن التعجب يكون فيما لا يعلم سببه وعلته فالسؤال عن العلة المستلزم لعدم معرفتها جعل مجازا أو كناية عن التعجب ، فقد قيل : إذا ظهر السبب بطل العجب فكأنه قيل : ليس نطقنا بعجب من قدرة الله تعالى الذي أنطق كل شيء وأيا ما كان فالنطق على معناه الحقيقي كما هو الظاهر وكذا الشهادة ، ولا يقال : الشاهد أنفسهم والسمع والأبصار والجلود آلات كاللسان فما معنى
شهدتم علينا لأنه يقال : ليس المراد هذا النوع من النطق الذي يسند حقيقة إلى جملة الشخص ويكون غيره آلة بلا قدرة وإرادة له في نفسه حتى لو أسند إليه كان مجازا كإسناد الكتابة إلى القلم بل هو نطق يسند إلى العضو حقيقة فيكون نفسه ناطقا بقدرة وإرادة خلقهما الله تعالى فيه كما ينطق الشخص بالآلة ، وكيف لا وأنفسهم كارهة لذلك منكرة له ، وقيل : الناطق هم بتلك الأعضاء إلا أنهم لا يقدرون على دفع كونها آلات ولذا نسبت الشهادة عليهم إليها وليس بشيء ، وجوز بعضهم أن يكون النطق مجازا عن الدلالة فالمراد بالشهادة ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت ملتبسة به في الدنيا بتغيير أشكالها ونحوه مما يلهم الله تعالى من رآه أنها تلبست به في الدنيا لارتفاع الغطاء في الآخرة ، وهو خلاف ظاهر الآيات والأحاديث ولا داعي إليه ، وعلى الظاهر لا بد من تخصيص ( كل شيء ) بكل حي نطق إذ ليس كل شيء ولا كل حي ينطق بالنطق الحقيقي ومثل هذا التخصيص شائع ، ومنه ما قيل في ( والله على كل شيء قدير ) [البقرة : 284 ، آل عمران : 29 ، المائدة : 19 ، 40 ، التوبة : 39] و
تدمر كل شيء [الأحقاف : 25] ، وجوز أن يكون النطق في
أنطقنا بمعناه الحقيقي ويحمل النطق في
أنطق كل شيء على الدلالة فيبقى العام على عمومه ولا يحتاج إلى التخصيص المذكور ويكون التعبير بالنطق للمشاكلة وهو خلاف الظاهر ، والموصول المشعر بالعلية يأباه إباء ظاهرا ، وقوله تعالى :
وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون يحتمل أن يكون من تمام كلام الجلود ومقول القول ويحتمل أن يكون مستأنفا من كلامه عز وجل والأول أظهر ، والمراد على كل حال تقرير ما قبله بأن القادر على الخلق أول مرة قادر على الإنطاق ، وصيغة المضارع إذا كان الخطاب يوم القيامة مع أن الرجع فيه متحقق لا مستقبل لما أن المراد بالرجع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث بل ما يعمه وما يترتب عليه من العذاب الخالد المرتقب عند التخاطب على تغليب المتوقع على الواقع ، وجوز أن تكون لاستحضار الصورة مع ما في ذلك من مراعاة الفواصل ،