وقوله تعالى:
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور تحذير عن الظلم والبغي وما يؤدي إلى العذاب الأليم بوجه، وفيه حض على ما حض عليه أولا اهتماما به وزيادة ترغيب فيه، فالصبر هنا هو الإصلاح المؤخر فيما تقدم قدم ههنا، وعبر عنه بالصبر لأنه من شأن أولي العزم وإشارة إلى أن الإصلاح بالعفو والإغضاء إنما يحمد إذا كان عن قدرة لا عن عجز، و (ذلك) إشارة إلى المذكور من الصبر والمغفرة، و (عزم الأمور) الأمور المعزومة المقطوعة أو العازمة الصادقة، وجوز في (من) أن تكون موصولة وأن تكون شرطية، وفي اللام أن تكون ابتدائية وأن تكون قسمية واكتفي بجواب القسم عن جواب الشرط، وإذا جعلت اللام للابتداء و (من) شرطية فجملة (إن ذلك) جواب الشرط وحذفت الفاء منها، ومن يخص الحذف بالشعر لا يجوز هذا الوجه، وذكر جماعة أن في الكلام حذفا أي إن ذلك منه لمن عزم الأمور، وعلل ذلك بأن الجملة خبر فلا بد فيها من رابط و (ذلك) لا يصلح له لأنه إشارة إلى الصبر والمغفرة، وكونه مغنيا عنه لأن المراد صبره أو (ذلك) رابط والإشارة لمن بتقدير من ذوي عزم الأمور تكلف.
هذا واختار العلامة
الطيبي أن تسمية الفعلة الثانية التي هي الجزاء سيئة من باب التهجين دون المشاكلة، وزعم أن المجازى مسيء وبنى على ذلك ربط جملة
إنه لا يحب الظالمين بما قبل فقال: يمكن أن يقال لما نسب المجازي إلى المساءة في قوله سبحانه:
وجزاء سيئة سيئة مثلها والمسيء في هذا المقام مفسدا لما في البين بدليل
فمن عفا وأصلح علل مفهوم ذلك بقوله سبحانه:
إنه لا يحب الظالمين كأنه قيل: من أخرج نفسه
[ ص: 49 ] بالعفو والإصلاح من الانتساب إلى السيئة والإفساد كان مقسطا إن الله يحب المقسطين فوضع موضعه
فأجره على الله ومن اشتغل بالمجازاة وانتسب إلى السيئة وأفسد ما في البين وحرم نفسه ذلك الأجر الجزيل كان ظالما نفسه
إنه لا يحب الظالمين فالآية واردة إرشادا للمظلوم إلى مكارم الأخلاق وإيثار طريق المرسلين.
وقال: إن قوله تعالى:
ولمن انتصر بعد ظلمه إلخ خطاب للولاة والحكام وتعليم فعل ما ينبغي فعله بدليل قوله سبحانه:
إنما السبيل على الذين يظلمون الناس حيث أعاد السبيل المنكر بالتعريف وعلق به
يظلمون الناس وفسره بقوله تعالى:
عذاب أليم وكذا قوله سبحانه:
ولمن صبر وغفر إلخ تعليم لهم أيضا طريق الحكم يعني أن صاحب الحق إذا عدل من الأولى وانتصر من الظالم فلا سبيل لكم عليه لما قد رخص له ذلك وإذا اختار الأفضل فلا سبيل لكم على الظالم لأن عفو المظلوم من عزم الأمور فتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان انتهى، ولا يخفى ما فيه.
وفي الكشف أن جعل ما ذكر خطابا للولاة
nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم يوجب التعقيد في الكلام فالمعول عليه ما قدمناه، وقد جاءت أخبار كثيرة في فضل العافين عمن ظلمهم،
أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في شعب الإيمان عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
(قال موسى ابن عمران عليه الصلاة والسلام يا رب من أعز عبادك عندك؟ قال: من إذا قدر غفر) وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم nindex.php?page=showalam&ids=13508وابن مردويه nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي في الشعب عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=945175 (إذا وقف العباد للحساب نادى مناد ليقم من أجره على الله تعالى فليدخل الجنة ثم نادى الثانية ليقم من أجره على الله تعالى قالوا: ومن ذا الذي أجره على الله تعالى؟ قال: العافون عن الناس فقام كذا وكذا ألفا فدخلوا الجنة بغير حساب) .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=11998وأبو داود nindex.php?page=hadith&LINKID=690096عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أن رجلا شتم nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر رضي الله تعالى عنه والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فجعل عليه الصلاة والسلام يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض قوله: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام فلحقه nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت قال: إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله: وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من الحق ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله تعالى إلا أعز الله عز وجل بها نصره وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله تعالى بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله تعالى بها قلة) واستشكل هذا الخبر بأنه يشعر بعتب
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهو نوع من السبيل المنفي في قوله تعالى:
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل وأجيب بأنا لا نسلم ذلك وليس فيه أكثر من تنبيهه رضي الله تعالى عنه على ترك الأولى وهو شيء والعتب شيء آخر، وكذا لا يعد لوما كما لا يخفى.
ومن الناس من خص السبيل في الآية بالإثم والعقاب فلا إشكال عليه أصلا، وقيل: هو باق على العموم إلا أن الآية في عوام المؤمنين ومن لم يبلغ مبلغ
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإن مثله يلام بالشتم وإن كان بحق بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأذن له به قالا أو حالا بل لاح عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ما يشعر باستحسان السكوت عنه وحسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقد أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بعض الأشخاص برد الشتم على الشاتم، أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي .
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه .
[ ص: 50 ] nindex.php?page=showalam&ids=13508وابن مردويه .
nindex.php?page=hadith&LINKID=887787عن nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخلت علي nindex.php?page=showalam&ids=15953زينب رضي الله تعالى عنها وعندي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأقبلت علي تسبني فوزعها النبي عليه الصلاة والسلام فلم تنته فقال لي: سبيها فسببتها حتى جف ريقها في فمها ووجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتهلل سرورا، ولعله كان هذا منه عليه الصلاة والسلام تعزيرا
nindex.php?page=showalam&ids=15953لزينب رضي الله تعالى عنها بلسان
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله تعالى عنها لما أن لها حقا في الردود أي المصلحة في ذلك وقد ذكر فقهاؤنا أن للقاضي أن يعزر من استحق التعزير بشتم غير القذف وكذا للزوج أن يعزر زوجته على شتمها غير محرم إلى أمور أخر فتأمل. وظاهر قوله تعالى:
وجزاء سيئة سيئة مثلها يقتضي رعاية المماثلة مطلقا، وفي تفسير الإمام أن الآية تقتضي وجوب رعاية المماثلة في كل الأمور إلا فيما خصه الدليل لأنه لو حملت المماثلة في أمر معين فهو غير مذكور فيها فيلزم الإجمال وعلى ما قلنا يلزم تحمل التخصيص ومعلوم أن دفع الإجمال أولى من دفع التخصيص.
والفقهاء أدخلوا التخصيص فيها في صور كثيرة تارة بناء على نص آخر أخص وأخرى بناء على القياس، ولا شك أن من ادعى التخصيص فعليه البيان والمكلف يكفيه أن يتمسك بها في جميع المطالب.
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد .
nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي إذا قال له: أخزاه الله تعالى فليقل أخزاه الله تعالى وإذا قذفه قذفا يوجب الحد فليس له ذلك بل الحد الذي أمر الله تعالى به، ونقل
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان عن الجمهور أنهم قالوا إذا بغى مؤمن على مؤمن فلا يجوز له أن ينتصر منه بنفسه بل يرفع ذلك إلى الإمام أو نائبه، وفي مجمع الفتاوى جاز المجازاة بمثله في غير موجب حد للإذن به
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل والعفو أفضل
فمن عفا وأصلح فأجره على الله وقال
ابن الهمام: الأولى أن الإنسان إذا قيل له ما يوجب التعزير أن لا يجيبه قالوا: لو قال له: يا خبيث الأحسن أن يكف عنه ويرفعه إلى القاضي ليؤدبه بحضوره ولو أجاب مع هذا فقال: بل أنت لا بأس.
وفي التنوير وشرحه ضرب غيره بغير حق وضربه المضروب أيضا يعزران كما لو تشاتما بين يدي القاضي ولم يتكافآ، وأنت تعلم ما يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا لنص، وظاهر كلام
العلامة الطيبي أن المظلوم إذا عفا لا يلزم الظالم التعزير بضرب أو حبس أو نحوه، وذكر فقهاؤنا أن التعزير يغلب فيه حق العبد فيجوز فيه الإبراء والعفو واليمين والشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين ويكون أيضا حقا لله تعالى فلا عفو فيه إلا إذا علم الإمام انزجار الفاعل إلى آخر ما قالوا، ويترجح عندي أن الإمام متى رأى بعد التأمل والتجرد عن حظوظ النفس ترك التعزير للعفو سببا للفساد والتجاسر على التعدي وتجاوز الحدود عزر بما تقتضيه المصلحة العامة وليبذل وسعه فيما فيه إصلاح الدين وانتظام أمور المسلمين وإياه أن يتبع الهوى فيضل عن الصراط المستقيم.