صراط الله بدل من الأول وإضافته إلى الاسم الجليل ثم وصفه بقوله تعالى:
الذي له ما في السماوات وما في الأرض لتفخيم شأنه وتقرير استقامته وتأكيد وجوب سلوكه فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى خلقا وملكا وتصرفا مما يوجب ذلك أتم إيجاب.
ألا إلى الله تصير الأمور أي أمور من فيهما قاطبة لا إلى غيره تعالى وذلك بارتفاع الوسائط يوم القيامة ففيه من الوعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم والوعيد للضالين عنه ما لا يخفى، وصيغة المضارع على ما قررنا على ظاهرها من الاستقبال، وقال في البحر: المراد بها الاستمرار كما في زيد يعطي أي من شأنه ذلك، والأول أظهر والله تعالى أعلم.
ومما قاله أرباب الإشارات في بعض الآيات قال سبحانه:
لتنذر أم القرى ومن حولها قيل يشير ذلك إلى إنذار نفسه الشريفة لأنها أم قرى نفوس
آدم وأولاده لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أول العالمين خلقا ومنه عليه الصلاة والسلام نشأت الأرواح والنفوس ومن هذا كان
آدم ومن دونه تحت لوائه صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد أشار إلى ذلك سلطان العاشقين
عمر بن الفارض بقوله على لسان الحقيقة المحمدية:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة فلي منه معنى شاهد بأبوتي
وقوله سبحانه:
ومن حولها يشير إلى نفوس أهل العالم وقد أنذر صلى الله عليه وسلم كلا حسب استعداده، وقيل: في قوله تعالى:
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير إنه يشير إلى التنزيه والتشبيه، وقرر ذلك الشيخ الأكبر قدس سره بما يطول
له مقاليد السماوات والأرض أي مفاتيح سموات القلوب وفيها خزائن لطفه تعالى ورحمته عز وجل وأرض النفوس وفيها خزائن قهره سبحانه وعزته جل جلاله فكل قلب مخزن لنوع من ألطافه كالمعرفة والمحبة والشوق والتوحيد والهيبة والأنس والرضا إلى غير ذلك، وقد يجتمع في القلب خزائن وكل نفس مخزن لنوع من آثار قهره كالنكرة والجحود والإنكار والشرك والنفاق والحرص والكبر والبخل والشره وغير ذلك، وقد
[ ص: 61 ] يجتمع في النفس خزائن، وفائدة الإخبار بأن له سبحانه مقاليد ذلك قطع أفكار العباد عمن سواه سبحانه في جلب ما يريدونه ودفع ما يكرهونه
الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب يشير إلى مقامي المجذوب والسالك فالمجذوب من الخواص اجتباه ربه سبحانه في الأزل وسلكه في مسلك من يحبهم واصطنعه سبحانه لنفسه جل شأنه وجذبه تعالى عن الدارين بجذبة توازي عمل الثقلين فهو في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والسالك من العوام سلكه في سلك من يحبونه بالتوفيق للهداية والقيام على قدمي الجهد والإنابة إلى سبيل الرشاد من طريق العناد
والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له يشير إلى الذين يجادلون في معرفة الله تعالى بشبه العقل الذي استجاب له تعالى حين دعاه فوصل إلى الحضرة فهو في كشف وعيان وأولئك من وراء ما يزعمون أنه برهان
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله يشير إلى كفار النفوس فإنهم شرعوا عند استيلائهم للأرواح والقلوب ما لم يرض به الله تعالى من مخالفات الشريعة وموافقات الطبيعة
الله لطيف بعباده يشير إلى عموم لطفه تعالى وهو أنواع لا تحصى ومراتب لا تستقصى.
وروى
السلمي عن سيد الطائفة قدس سره اللطيف من نور قلبك بالهدى وربى جسمك بالغذا ويخرجك من الدنيا بالإيمان ويحرسك من نار لظى ويمكنك حتى تنظر وترى هذا لطف اللطيف بالعبد الضعيف
والذين آمنوا وعملوا الصالحات استعملوا تكاليف الشرع لقمع الطبع وكسر الهوى وتزكية النفس وتصفية القلب وجلاء الروح
في روضات الجنات في الدنيا جنات الوصلة والمعارف وطيب الأنس في الخلوة والآخرة في روضات الجنة
لهم ما يشاءون عند ربهم حسب مراتبهم في القربات والوصلات والمكاشفات ونيل الدرجات وعلى قدر هممهم
قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى وهم أقاربه صلى الله تعالى عليه وسلم الذين خلقوا من عنصره الشريف وتحلوا بحلاه المنيف كأئمة أهل البيت ومودتهم يعود نفعها إلى من يودهم لأنها سبب للفيض وهم رضي الله تعالى عنهم أبوابه وفي قوله صلى الله تعالى عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=942262 (أنا مدينة العلم وعلي بابها) رمز إلى ذلك فافهم الإشارة
وهو الذي يقبل التوبة عن عباده لمزيد كرمه جل شأنه فمتى وفق عبدا للتوبة قبلها جودا وكرما وعن بعضهم أنه قال لبعض المشايخ: إن تبت فهل يقبلني الله تعالى؟ فقال: إن يقبلك الله تعالى تتب إليه سبحانه فقبول الله تعالى سابق على التوبة
ويزيدهم من فضله إشارة إلى الرؤية فإن الجنان ونعيمها مخلوقة تقع في مقابلة مخلوق وهو عمل العمال والرؤية مما تتعلق بالقديم فلا تقع إلا فضلا ربانيا، وفي بعض الأخبار أن هذه الزيادة أن يشفعهم في إخوان إخوانهم
استجيبوا لربكم الاستجابة للعوام بالوفاء بعهده تعالى والقيام بحقه سبحانه والرجوع عن مخالفته جل شأنه إلى موافقته عز وجل وللخواص بالاستسلام للأحكام الأزلية والإعراض عن الدنيا وزينتها وشهواتها، ولأخص الخواص من أهل المحبة بصدق الطلب بالإعراض عن الدارين والتوجه لحضرة الجلال ببذل الوجود في نيل الوصول والوصال
يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما قيل فيه إشارة إلى أحوال المشايخ من حيث المريدين فمنهم من يهب الله تعالى له ومنهم من لا تصرف له في غيره بالتخريج والتسليك وهو أشبه شيء بالأنثى من حيث عدم التصرف ومنهم من يهب سبحانه له من له قدرة التصرف بالتخريج والتسليك وهو أشبه شيء بالذكر ومنهم من يهب له تعالى هذا وهذا ومنهم من يجعله جل وعلا عقيما لأمر يدله أصلا
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم قال سيدي الشيخ
[ ص: 62 ] عبد الوهاب الشعراني في تفسيره الآية المذكورة اعلم أن المانع من سماع كلام الحق إنما هو البشرية فإذا ارتفع العبد عنها كلمه الله تعالى من حيث كلم سبحانه الأرواح المجردة عن المواد، والبشر ما سمي بشرا إلا لمباشرته الأمور التي تعوقه عن اللحوق بدرجة فلما لم يلحق كلمه الله تعالى في الأشياء وتجلى سبحانه له فيها بخلاف من لحق كالأنبياء عليهم السلام فلا يتجلى الحق سبحانه لغيرهم إلا في حجاب الصور ولولا هدايته تعالى للعبد ما عرف أنه سبحانه ربه، واعلم أن الحقيقة تأبى أن يكلم الله تعالى غير نفسه أو يسمع غير نفسه فلا بد إذا خاطب عبدا على قصد إسماعه أن يكون جميع قواه لأنه محال أن يطيق الحادث سماع كلام القديم ولم يكن الحق سبحانه قواه عند النجوى ولذلك خر
موسى عليه السلام صعقا إذ لم يكن له استعداد يقبل له التجلي اللائق بمقامه وثبت نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ولما لم يكن للجبل درجة المحبة التي يكون بها الحق سمع عبده وبصره وجميع قواه لم يقدر على سماع الخطاب فدك، واعلم أن حديث الحق سبحانه للخلق لا يزال أبدا غير أن من الناس من يفهم أنه حديث
كعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ومن ورثه من الأولياء ومنهم من لا يعرف ذلك ويقول: ظهر لي كذا وكذا ولا يعرف أن ذلك من حديث الحق سبحانه معه وكان شيخنا يقول: كان
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر من أهل السماع المطلق الذي يحدثهم الله تعالى في كل شيء ولكن له ألقاب وهو أنه إن أجابوه به تعالى فهو حديث وإن أجابوه بهم فهي محادثة وإن سمعوا حديثه سبحانه فليس بحديث في حقهم وإنما هو خطاب أو كلام، وقد ورد في المتهجدين أنهم أهل المسامرة فقد علمت أن الوحي ما يلقيه الله تعالى في قلوب خواص عباده على جهة الحديث فيحصل لهم من ذلك علم بأمر ما فإن لم يكن كذلك فليس بوحي ولا خطاب فإن بعض الناس يجدون في قلوبهم علما بأمر ما مثل العلوم الضرورية عند الناس فهو علم صحيح لكن ليس صادرا عن خطاب وكلامنا إنما هو في الخطاب الإلهي والمسمى وحيا فإن الله تعالى جعل هذا الصنف من الوحي كلاما يستفيد به العلم من جاء له.
واعلم أنه لا ينزل على قلوب الأولياء من وحي الإلهام إلا دقائق ممتدة من الأرواح الملكية لا نفس الملائكة لأن الملك لا ينزل بوحي على غير نبي أصلا ولا يأمر بأمر إلهي قطعا لأن الشريعة قد استقرت فلم يبق إلا وحي المبشرات وهو الوحي الأعم ويكون من الحق إلى العبد من غير واسطة ويكون أيضا بواسطة والنبوة من شأنها الواسطة فلا بد من واسطة الملك فيها لكن الملك لا يكون حال إلقائه ظاهرا بخلاف الأنبياء عليهم السلام فإنهم يرون الملك حال الكلام والولي لا يشهد الملك إلا في غير حال الإلقاء فإن سمع كلامه لم يره وإن رآه لا يكلمه فالعارفون لا ينالون ما فاتهم من النبوة مع بقاء المبشرات عليهم إلا أن الناس يتفاضلون فمنهم من لا يبرح في بشارة الواسطة ومنهم من يرتفع عنها كالأفراد فإن لهم المبشرات بارتفاع الوسائط وما لهم النبوات ولهذا ينكر عليهم الأحكام لأنهم ضاهوا الأنبياء من حيث كونهم يعلمون بما يرونه من تعريفات الحق لهم كأنه شريعة مستقلة في الظاهر وليس ذلك بشريعة إنما هو بيان لها فالمنقطع إنما هو وحي التشريع لا غير أما التعريف لأمور مجملة في السنة فهو باق لهذه الأمة ليكونوا على بصيرة فيما يدعون الناس إليه لأنه خبر إلهي وأخبار من الله تعالى للعبد على يد ملك مغيب على هذا الملهم، ولا يكون الإلهام إلا في الخير و (ألهمها) فجورها على معنى إلهامها إياه لتجتنبه كما أن إلهامها تقواها لتعمل بها، وأكمل الإلهام أن يلهم اتباع الشرع والنظر في الكتب الإلهية ويقف عند حدودها وأوامرها حتى يزول صدى طبيعته وتنتقش فيها صور العالم، وأما قوله تعالى:
أو من وراء [ ص: 63 ] حجاب فهو خطاب إلهي يلقيه على السمع لا على القلب فيدركه من ألقي إليه فيفهم منه ما قصده من يسمعه ذلك وقد يحصل له ذلك في صورة التجلي فتخاطبه تلك الصورة وهي عين الحجاب فيفهم من ذلك الخطاب علم ما يدل عليه ويعلم أن ذلك حجاب وأن المتكلم من وراء ذلك الحجاب وكل من أدرك صورة التجلي الإلهي يعلم أن ذلك هو الله تعالى فما يزيد صاحب هذا الحال على غيره إلا بمعرفته أن المخاطب له من وراء الحجاب.
وأما قوله تعالى:
أو يرسل رسولا فهو ما ينزل به الملك أو ما يجيء به الرسول البشري إلينا إذا نقلا كلام الله تعالى خاصة كالتالين فإن نقلا علما وجداه في أنفسهما وأفصحا عنه فذلك ليس بكلام إلهي، ومن الأولياء من يعطى الترجمة عن الله سبحانه في حال الإلقاء والوحي الخاص بكل إنسان فيكون المترجم موجدا لصور الحروف اللفظية أو المرقومة ويكون روح تلك الصور كلام الله عز وجل لا غير، وقد يقول الولي: حدثني قلبي عن ربي يعني به من الوجه الخاص فاعلم ذلك وتأمل ما قررته لك فإنه نفيس والله تعالى يتولى هداك، وله قدس سره كلام كثير في هذا المقام تركناه خوف الإطالة، ولعل فيما ذكرناه كفاية لذوي الأفهام
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وهو ما به الحياة الطيبة الأبدية
ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل الإيحاء.
قيل: أشير بهذا الإيحاء إلى الإيحاء في هذه النشأة وكان له صلى الله تعالى عليه وسلم في كل حال من أحواله فيها نوع من الوحي والدراية المنفية إذ كان عليه الصلاة والسلام في كينونته وقبل إخراجه منها بتجلي كينونته عز وجل وإلا فهو صلى الله تعالى عليه وسلم نبي ولا آدم ولا ماء ولا طين ولا يعقل نبي بدون إيحاء
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم وهو التوحيد السليم من زوايا الأغيار ويشير إلى ذلك قوله تعالى:
ألا إلى الله تصير الأمور تمت السورة بتوفيق الله عز وجل والصلاة والسلام على أول نور أشرق من شمس الأزل وبها والحمد لله تعالى .