صفحة جزء
إنا أنزلناه أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعول عليه في ليلة مباركة هي ليلة القدر على ما روي عن ابن عباس . وقتادة . وابن جبير . ومجاهد . وابن زيد . والحسن . وعليه أكثر المفسرين والظواهر معهم، وقال عكرمة . وجماعة: هي ليلة النصف من شعبان. وتسمى ليلة الرحمة والليلة المباركة وليلة الصك وليلة البراءة، ووجه تسميتها بالأخيرين أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة [ ص: 111 ] والصك كذلك أن الله عز وجل يكتب لعباده المؤمنين البراءة والصك في هذه الليلة. وظاهر كلامهم هنا أن البراءة وهي مصدر برئ براءة إذا تخلص تطلق على صك الأعمال والديون وما ضاهاها وأنه ورد في الآثار ذلك وهو مجاز مشهور وصار بذلك كالمشترك، وفي المغرب برئ من الدين والعيب براءة، ومنه البراءة لخط الإبراء والجمع براءات وبروات عامية اهـ.

وأكثر أهل اللغة على أنه لم يسمع من العرب وأنه عامي صرف وإن كان من باب المجاز الواسع.

قال ابن السيد في المقتضب البراءة في الأصل مصدر برئ براءة، وأما البراءة المستعملة في صناعة الكتاب فتسميتها بذلك إما على أنها من برئ من دينه إذا أداه وبرئت من الأمر إذا تخليت منه فكأن المطلوب منه أمر تبرأ إلى الطالب أو تخلى، وقيل: أصله أن الجاني كان إذا جنى وعفا عنه الملك كتب له كتاب أمان مما خافه فكان يقال: كتب السلطان لفلان براءة ثم عمم ذلك فيما كتب من أولي الأمر وأمثالهم اهـ.

وذكروا في فضل هذه الليلة أخبارا كثيرة، منها ما أخرجه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي كرم الله وجهه قال: (قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفر له ألا مسترزق فأرزقه ألا مبتلى فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر) وما أخرجه الترمذي . وابن أبي شيبة . والبيهقي . وابن ماجه . عن عائشة قالت: (فقدت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات ليلة فخرجت أطلبه فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه إلى السماء فقال يا عائشة : أكنت تخافين أن يحيف الله تعالى عليك ورسوله؟ قلت: ما بي من ذلك ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب) وما أخرجه أحمد بن حنبل في المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (يطلع الله تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن وقاتل نفس) وذكر بعضهم فيها صلاة مخصوصة وأنها تعدل عشرين حجة مبرورة وصيام عشرين سنة مقبولا، وروى في ذلك حديثا طويلا عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقد أخرجه البيهقي ثم قال: يشبه أن يكون هذا الحديث موضوعا وهو منكر وفي رواته مجهولون وأطال الوعاظ الكلام في هذه الليلة وذكر فضائلها وخواصها، وذكروا عدة أخبار في أن الآجال تنسخ فيها. وفي الدر المنثور طرف غير يسير من ذلك وسنذكر بعضا منه إن شاء الله تعالى. وفي البحر قال الحافظ أبو بكر بن العربي: لا يصح فيها شيء ولا نسخ الآجال فيها ولا يخلو من مجازفة والله تعالى أعلم. والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملة إلى السماء الدنيا من اللوح فالإنزال المنجم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أن المحل الذي أنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور وهو مسامت للكعبة بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنه قال: نزل القرآن جملة على جبريل عليه السلام وكان جبريل عليه السلام يجيء به بعد إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.

وقال غير واحد: المراد ابتداء إنزاله في تلك الليلة على التجوز في الطرف أو النسبة واستشكل ذلك بأن [ ص: 112 ] ابتداء السنة المحرم أو شهر ربيع الأول لأنه ولد فيه صلى الله تعالى عليه وسلم ومنه اعتبر التاريخ في حياته عليه الصلاة والسلام إلى خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وهو الأصح، وقد كان الوحي إليه صلى الله تعالى عليه وسلم على رأس الأربعين سنة من مدة عمره عليه الصلاة والسلام على المشهور من عدة أقوال فكيف يكون ابتداء الإنزال في ليلة القدر من شهر رمضان أو في ليلة البراءة من شعبان.

وأجيب بأن ابتداء الوحي كان مناما في شهر ربيع الأول ولم يكن بإنزال شيء من القرآن والوحي يقظة مع الإنزال كان في يوم الإثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، وقيل لسبع منه، وقيل لأربع وعشرين ليلة منه، وأنت تعلم كثرة اختلاف الأقوال في هذا المقام فمن يقول بابتداء إنزاله في شهر يلتزم منها ما لا يأباه.

واختلف في أول ما نزل منه، ففي صحيح مسلم أنه يا أيها المدثر وتعقبه النووي في شرحه فقال: إنه ضعيف بل باطل والصواب أن أول ما نزل على الإطلاق اقرأ باسم ربك كما صرح به في حديث عائشة ، وأما يا أيها المدثر فكان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزهري عن أبي سلمة . عن جابر .

وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر اهـ والكلام في ذلك مستوفى في الإتقان فليرجع إليه من أراده.

ووصف الليلة بالبركة لما أن إنزال القرآن مستتبع للمنافع الدينية والدنيوية بأجمعها أو لما فيها من تنزل الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وفضيلة العبادة أو لما فيها من ذلك وتقدير الأرزاق وفصل الأقضية كالآجال وغيرها وإعطاء تمام الشفاعة له عليه الصلاة والسلام، وهذا بناء على أنها ليلة البراءة، فقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطي الثلث منها ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطي الثلثين ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطي الجميع إلا من شرد على الله تعالى شراد البعير، وأيا ما كان فقد قيل: إن التعليل إنما يحتاج إليه بناء على القول بما اختاره العز بن عبد السلام من أن الأمكنة والأزمنة كلها متساوية في حد ذاتها لا يفضل بعضها بعضا إلا بما يقع فيها من الأعمال ونحوها، وزاد بعضهم أو يحل لتدخل البقعة التي ضمته صلى الله تعالى عليه وسلم فإنها أفضل البقاع الأرضية والسماوية حتى قيل وبه أقول إنها أفضل من العرش.

والحق أنه لا يبعد أن يخص الله سبحانه بعضها بمزيد تشريف حتى يصير ذلك داعيا إلى إقدام المكلف على الأعمال فيها أو لحكمة أخرى، وجملة إنا أنزلناه جواب القسم، وفي ذلك مبالغة نحو ما في قوله:

وثناياك إنها إغريض

.

وقوله تعالى: إنا كنا منذرين استئناف يبين المقتضي للإنزال،

التالي السابق


الخدمات العلمية