قوله سبحانه:
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض أي من الموجودات بأن جعل فيها منافع لكم منها ظاهرة ومنها خفية، وعقب بالتفكر لينبه على أن التفكر هو الذي يؤدي إلى ما ذكر من الأولوية ويدل به على أن التفكر ملاك الأمر في ترتيب الغرض على ما جعل آية من الإيمان والإيقان والشكر
جميعا حال
[ ص: 145 ] من
ما في السماوات وما في الأرض أو توكيد له وقوله تعالى:
منه حال من ذلك أيضا، والمعنى سخر هذه الأشياء جميعا كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه سبحانه مكونها وموجدها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه. وجوز فيه أوجه أخر. الأول أن يكون خبر مبتدأ محذوف فقيل (جميعا) حينئذ حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور بناء على جواز تقدم الحال على مثل هذا العامل أو من المبتدأ بناء على تجويز الحال منه أي هي جميعا منه تعالى وقيل: جميعا على ما كان ويلاحظ في تصوير المعنى فالضمير المبتدأ يقدر بعده ويعتبر رجوعه إلى ما تقدم بقيد جميعا، والجملة على القولين استئناف جيء به تأكيدا لقوله تعالى:
سخر أي أنه عز وجل أوجدها ثم سخرها لا أنها حصلت له سبحانه من غيره كالملوك، الثاني أن يجعل
ما في السماوات مبتدأ ويكون هو خبره و
جميعا حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع صلة ويكون
وسخر لكم تأكيدا للأول أي سخر وسخر، وفي العطف إيماء إلى أن التسخير الثاني كأنه غير الأول دلالة على أن المتفكر كلما فكر يزداد إيمانا بكمال التسخير والمنة عليه، وجملة
ما في السماوات إلخ مستأنفة لمزيد بيان القدرة والحكمة.
واعترض بأنه إن أريد التأكيد اللغوي فهو لا يخلو من الضعف لأن عطف مثله في الجمل غير معهود، وإن أريد التأكيد الاصطلاحي كما قيل به في قوله تعالى:
كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون فهو مخالف لما ذكره
ابن مالك في التسهيل من أن عطف التأكيد يختص بثم، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14374الرضي: يكون بالفاء أيضا وهو ههنا بالواو ولم يجوزه أحد منهم وإن لم يذكروا وجه الفرق على أنه قد تقرر في المعاني أنه لا يجري في التأكيد العطف مطلقا لشدة الاتصال، واعترض أيضا بأن فيه حذف مفعول
سخر من غير قرينة وهذا كما ترى، الثالث أن يكون (ما في الأرض) مبتدأ و
منه خبره ولا يخفى أنه ضعيف بحسب المساق.
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12918ابن المنذر من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16584عكرمة أن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يكن يفسر هذه الآية، ولعله إن صح محمول على أنه لم يبسط الكلام فيها، فقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عنه أنه قال فيها كل شيء هو من الله تعالى.
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16360عبد الرزاق .
nindex.php?page=showalam&ids=16298وعبد بن حميد .
nindex.php?page=showalam&ids=12918وابن المنذر .
nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم وصححه.
nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي في الأسماء والصفات عن
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس قال: جاء رجل إلى
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا أدري ثم أتى الرجل
nindex.php?page=showalam&ids=16414عبد الله بن الزبير فسأله فقال مثل قول
عبد الله بن عمرو فأتى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فسأله مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال: فمم خلق هؤلاء؟ فقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
واختلف أهل العلم فيما أراد
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بذلك فقال
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي : أراد أن مصدر الجميع منه تعالى أي من خلقه وإبداعه واختراعه خلق الماء أولا أو الماء وما شاء عز وجل من خلقه لا عن أصل ولا عن مثال سبق ثم جعله تعالى أصلا لما خلق بعده فهو جل شأنه المبدع وهو سبحانه البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه اهـ، وعليه جميع المحدثين والمفسرين ومن حذا حذوهم، وقال
الشيخ إبراهيم الكوراني من الصوفية: إن المخلوقات تعينات الوجود المفاض الذي هو صورة النفس الرحماني المسمى بالعماء وذلك أن
[ ص: 146 ] العماء قد انبسط على الحقائق التي هي أمور عدمية متميزة في نفس الأمر والانبساط حادث والعماء من حيث اقترانه بالماهيات غير ذات الحق تعالى فإنه سبحانه الوجود المحض الغير المقترن بها فالموجودات صور حادثة في العماء قائمة به والله تعالى قيومها لأنه جل وعلا الأول الباطن الممد لتلك الصور بالبقاء ولا يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الحق تعالى ولا كونه سبحانه مادة لها لأن وجوده تعالى مجرد عن الماهيات غير مقترن بها والمتعين بحسبها هو العماء الذي هو الوجود المفاض منه تعالى بإيجاده جل شأنه، وبهذا ينطبق الجواب على السؤال من غير تكلف ولا محذور، ولو كان مراد
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس مجرد ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي من أن مصدر الجميع من خلقه تعالى كان يكفي في ذلك قوله تعالى:
الله خالق كل شيء لكن السؤال إنما وقع بمم ووقع الجواب بمنه في تلاوته الآية فالظاهر أن ما فهمه السائل من تلاوته رضي الله تعالى عنه ليس مجرد ما ذكره بقرينة مدحه بقوله: ما كان ليأتي بهذا إلخ فإن ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي يعرفه كل من آمن بقوله تعالى:
الله خالق كل شيء فلا يظهر حينئذ وجه لقول كل من
ابن عمرو nindex.php?page=showalam&ids=16414وابن الزبير لا أدري فإنهما من أفضل المؤمنين بأن الله تعالى خالق كل شيء بل ما فهمه هو ما أشرنا إليه اهـ، وعليه عامة أهل الوحدة (وأجاب الأولون) بأن مراد
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قطع التسلسل في السؤال بعد ذكر مادة لبعضها بأن مرجع الأمر أن الأشياء كلها خلقت بقدرته تعالى لا من شيء وهو كلام حكيم يمدح قائله لم يهتد إليه
nindex.php?page=showalam&ids=16414ابن الزبير .
وابن عمرو ، ولا يعكر على هذا قوله تعالى:
أم خلقوا من غير شيء لما قاله المفسرون فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى في محله فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، وقد أورد
الحسين بن علي بن واقد في مجلس الرشيد هذه الآية ردا على بعض النصارى في زعمه أن قوله تعالى في
عيسى عليه السلام:
وروح منه يدل على ما يزعمه فيه عليه السلام من أنه ابن الله سبحانه وتعالى عما يصفون.
وحكى
أبو الفتح. وصاحب اللوامح عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
وعبد الله بن عمرو .
والجحدري. وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرأوا (منة) بكسر الميم وشد النون ونصب التاء على أنه مفعول له أي سخر لكم ذلك نعمة عليكم، وحكاها عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أيضا ابن خالويه. لكن قال
nindex.php?page=showalam&ids=11970أبو حاتم : إن سند هذه القراءة إليه مظلم فإذا صح السند يمكن أن يقال فيما تقدم من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس : إنه ذكر الآية على قراءة الجمهور ويحتمل أن له قراءتين فيها.
وقرأ
مسلمة بن محارب كذلك إلا أنه ضم التاء على تقدير هو أو هي منة، وعنه أيضا فتح الميم وشد النون وهاء الكتابة عائدة على الله تعالى أي إنعامه وهو فاعل
سخر على الإسناد المجازي كما تقول: كرم الملك أنعشني أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا أو هو منه تعالى، وجوزت الفاعلية في قراءته الأولى، وتذكير الفعل لأن الفاعل ليس مؤنثا حقيقيا مع وجود الفاصل، والوجه الأول أولى وإن كان فيه تقدير
إن في ذلك أي فيما ذكر
لآيات عظيمة الشأن كثيرة العدد
لقوم يتفكرون في بدائع صنعه تعالى وعظائم شأنه جل شأنه فإن ذلك يجرهم إلى الإيمان والإيقان والشكر.