واعلموا أن فيكم رسول الله عطف على ما قبله، ( وأن ) بما في حيزها ساد مسد مفعولي ( اعلموا )
[ ص: 148 ] باعتبار ما قيد به من الحال وهو قوله عز وجل:
لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم أي لوقعتم في الجهد والهلاك فإنه حال من أحد الضميرين في ( فيكم ) الضمير المستتر المرفوع وهو ضمير الرسول أو البارز المجرور وهو ضمير المخاطبين، وتقديم خبر أن للحضر المستتبع زيادة التوبيخ، وصيغة المضارع للاستمرار- فلو- لامتناع استمرار طاعته عليه الصلاة والسلام لهم في كثير مما يعن لهم من الأمور، وكون المراد استمرار الامتناع نظير ما قيل في قوله تعالى: ( ولا هم يحزنون ) من أن المراد استمرار النفي ليس بذاك، وفي الكلام إشعار بأنهم زينوا بين يدي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الإيقاع بالحرث وقومه وقد أريد أن ينعى عليهم ذلك بتنزيلهم منزلة من لا يعلم أنه عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم فقيل: واعلموا أنه فيكم لا في غيركم كأنهم حسبوه لعدم تأدبهم وما بدر منهم الفرطة بين أظهر أقوام آخرين كائنا على حال يجب عليكم تغييرها أو وأنتم على كذلك وهو ما تريدون من استتباع رأيه لرأيكم وطاعته لكم مع أن ذلك تعكيس وموجب لوقوعكم في العنت، وفيه مبالغات من أوجه: أحدها إيثار ( لو ) ليدل على الفرض والتقدير وأن ما بدر من من التزيين كان من حقه أن يفرض كما يفرض الممتنعات، والثاني ما في العدول إلى المضارع من تصوير ما كانوا عليه وتهجينه من التوبيخ بإرادة استمرار ما حقه أن يكون مفروضا فضلا عن الوقوع، والثالث ما في العنت من الدلالة على أشد المحذور فإنه الكسر بعد الجبر والرمز الخفي على أنه ليس بأول بادرة. والرابع ما في تعميم الخطاب والحري به غير الكمل من التمريض ليكون أردع لمرتكبه وأزجر لغيره كأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا تبينوا إن جاءكم فاسق ولا تكونوا أمثال هؤلاء ممن استفزه النبأ قبل تعرف صدقه ثم لا يقنعه ذلك حتى يريد أن يستتبع رأي من هو المتبوع على الإطلاق فيقع هو ويقع غيره في العنت والإرهاق واعلموا جلالة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتفادوا عن أشباه هذه الهنات، وقوله عز وجل:
ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان استدراك على ما يقتضيه الكلام فإن
لو يطيعكم خطاب كما سمعت للبعض الغير الكمل عمم للفوائد المذكورة والمحبب إليهم الإيمان هم الكمل فكأنه قيل: ولكن الله حبب إلى بعضكم الإيمان وعدل عنه لنداء الصفة به، وعليه قول بعض المفسرين هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، والإشارة بقوله تعالى
أولئك هم الراشدون إليهم، وفيه نوع من الالتفات، والخطاب فيه للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم كأنه تعالى يبصره عليه الصلاة والسلام ما هم فيه من سبق القدم في الرشاد أي إصابة الطريق السوي، فحاصل المعنى أنتم على الحال التي ينبغي لكم تغييرها وقد بدر منكم ما بدر ولكن ثم جمعا عما أنتم عليه من تصديق الكاذب وتزيين الإيقاع بالبريء وإرادة أن يتبع الحق أهواءكم برآء لأن الله تعالى حبب إليهم الإيمان إلخ، وهذا أولى من جعل
لو يطيعكم إلخ في معنى ما حبب إليهم الإيمان تغليظا لأن من تصدى للإيقاع بالبريء بين يدي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وجسر على ارتكاب تلك العظيمة لم يكن محبوبا إليه الإيمان وإن كان ذلك أيضا سديدا لشيوع التصرف في الأواخر في مثله، وجعله بعضهم استدراكا ببيان عذرهم فيما بدر منهم، ومآل المعنى لم يحملكم على ما كان منكم اتباع الهوى ومحبة متابعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لآرائكم بل محبة الإيمان وكراهة الكفر هي الداعية لذلك، والمناسب لما بعد ما ذكرناه.
[ ص: 149 ] وجوز غير واحد من المعربين أن
لو يطيعكم استئناف على معنى أنه لما قيل
واعلموا أن فيكم رسول الله دالا على أنهم جاهلون بمكانه عليه الصلاة والسلام مفرطون فيما يجب من تعظيم شأنه أعلى الله شأنه اتجه لهم أن يسألوا ماذا فعلوا حتى نسبوا إلى التفريط وماذا ينتج من المضرة؟ فأجيبوا بما يصرح بالنتيجة لخفائها ويومئ إلى ما فيها من المعرة من وقوعهم في العنت بسبب استتباع من هو في علو المنصب اقتداء يتخطى أعلى المجرة، وهو حسن لولا أن ( واعلموا ) كلام من تتمة الأول كما يؤذن به العطف لا وارد تقريعا على الاستقلال فيأبى التقدير المذكور لتعين موجب التفريط، وأيضا يفوت التعريض وإن ذلك بادرة من بعضهم في قصة ابن عقبة ويتنافر الكلام، هذا
وكره يتعدى بنفسه إلى واحد وإذا شدد زاد له آخر لكنه ضمن في الآية معنى التبغيض فعومل معاملته وحسنه مقابلته لحبب أو نزل
إليكم منزلة مفعول آخر، و
الكفر تغطية نعم الله تعالى بالجحود، و
الفسوق الخروج عن القصد ومأخذه ما تقدم،
والعصيان الامتناع عن الانقياد، وأصله من عصت النواة صلبت واشتدت، والكلام أعني قوله تعالى:
ولكن الله إلخ ثناء عليهم بما يردف التحبيب المذكور والتكريه من فعل الأعمال المرضية والطاعات والتجنب عن الأفعال القبيحة والسيئات على سبيل الكناية ليقع التقابل موقعه على ما سلف آنفا، وقيل: الداعي لذلك ما يلزم على الظاهر من المدح بفعل الغير مع أن الكلام مسوق للثناء عليهم وهو في إيثارهم الإيمان وإعراضهم عن الكفر وأخويه لا في تحبيب الله تعالى الإيمان لهم وتكريهه سبحانه الكفر وما معه إليهم. وأنت تعلم أن الثناء على صفة الكمال اختيارية كانت أولا شائع في عرف
العرب والعجم، والمنكر معاند على أن ذلك واقع على الجماد أيضا، والمسلم الضروري أنه لا يمدح الرجل بما لم يفعله على أنه فعله، وإليه الإشارة في قوله تعالى:
ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا أما أنه لا يمدح به على أنه صفة له فليس بمسلم فلا تغفل