صفحة جزء
ولقد صدقكم الله وعده أخرج الواحدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم [ ص: 89 ] إلى المدينة ، وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد ، قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله تعالى النصر ، فأنزل الله تعالى الآية ، ووعده مفعول ثان لصدق صريحا فإنه يتعدى إلى مفعولين في مثل هذا النحو ، وقد يتعدى إلى الثاني بحرف الجر فيقال : صدقت زيدا في الحديث ، ومن هنا جوز بعضهم أن يكون نصبا بنزع الخافض ، والمراد بهذا الوعد ما وعدهم سبحانه من النصر بقوله عز اسمه : إن تصبروا وتتقوا إلخ ، وعلى لسان نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قال للرماة : " لا تبرحوا مكانكم فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم " .

وفي رواية أخرى : " لا تبرحوا عن هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان " .

وأيد الأول بما أخرجه البيهقي في الدلائل عن عروة قال : كان الله تعالى وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ، وكان قد فعل ، فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم ، وتركت الرماة عهد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم أن لا يبرحوا منازلهم وأرادوا الدنيا ؛ رفع الله تعالى مدد الملائكة . واختار مولانا شيخ الإسلام الثاني ، وقد تقدم لك ما ينفعك هنا .

والقول بأن المراد ما وعده جل شأنه بقوله سبحانه : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليس بشيء كما لا يخفى .

وأخرج الإمام أحمد وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما نصر الله تعالى نبيه في موطن كما نصره يوم أحد ، فأنكروا ذلك ، فقال ابن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله تعالى ، إن الله تعالى يقول يوم أحد : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم أي تقتلونهم وهو التفسير المأثور ، واستشهد عليه الحبر بقول عتبة الليثي :


(نحسهم) بالبيض حتى كأننا نفلق منهم بالجماجم حنظلا



وبقوله :


ومنا الذي لاقى بسيف محمد      (فحس) به الأعداء عرض العساكر



وأصل معنى حسه أصاب حاسته بآفة فأبطلها مثل كبده ، ولذا عبر به عن القتل ، ومنه جراد محسوس وهو الذي قتله البرد ، وقيل : هو الذي مسته النار ، وكثيرا ما يستعمل الحس بالقتل على سبيل الاستئصال ، والظرف متعلق بـ صدقكم وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفا للوعد بإذنه أي بتيسيره وتوفيقه ، والتقييد به لتحقيق أن قتلهم بما وعدهم الله تعالى من النصر حتى إذا فشلتم أي فزعتم وجبنتم عن عدوكم وتنازعتم في الأمر أي أمر الحرب أو أمره صلى الله تعالى عليه وسلم لكم في سد ذلك الثغر على ما تقدم تفسيره وعصيتم إذ لم تثبتوا هناك وملتم إلى الغنيمة من بعد ما أراكم ما تحبون من انهزام المشركين وغلبتكم عليهم .

قال مجاهد : نصر الله تعالى المؤمنين على المشركين حتى ركب نساء المشركين على كل صعب وزلول ثم أديل عليهم المشركون بمعصيتهم للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وروي أن خالد بن الوليد أقبل بخيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل ، فأرسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الزبير رضي الله تعالى عنه أن احمل عليه ، فحمل عليه فهزمه ومن معه ، فلما رأى الرماة ذلك انكفأوا إلا قليلا ودخلوا العسكر وخالفوا الأمر وأخلوا الخلة التي كانوا فيها ، فدخلت خيول المشركين من ذلك الموضع على الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فضرب بعضهم بعضا والتبسوا ، وقتل من المسلمين أناس كثير بسبب ذلك .

منكم من يريد الدنيا وهم الرماة الذين طمعوا في النهب وفارقوا المركز له ومنكم من يريد الآخرة كعبد الله بن جبير أمير الرماة ومن ثبت معه ممتثلا أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى [ ص: 90 ] استشهد ثم صرفكم عنهم أي كفكم عنهم حتى تحولت الحال من الغلبة إلى ضدها ليبتليكم أي ليعاملكم معاملة من يمتحن ليبين أمركم وثباتكم على الإيمان ، ففي الكلام استعارة تمثيلية ، وإلا فالامتحان محال على الله تعالى ، وفي (حتى) هنا قولان : أحدهما أنها حرف جر بمنزلة إلى ومتعلقها تحسونهم أو صدقكم أو محذوف تقديره دام لكم ذلك ، وثانيهما أنها حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية من إذا وما بعدها ، وجواب (إذا) قيل : تنازعتم والواو زائدة واختاره الفراء ، وقيل : صرفكم ، و (ثم) زائدة وهو ضعيف جدا ، والصحيح أنه محذوف وعليه البصريون ، وقدره أبو البقاء : بأن أمركم ، وأبو حيان : انقسمتم إلى قسمين بدليل ما بعده ، والزمخشري : منعكم نصره ، وابن عطية : انهزمتم ، ولكل وجهة ، وبعض المتأخرين : امتحنكم ، ورد بجعل الابتداء غاية للصرف المترتب على منع النصر ، وعلى كل تقدير يكون صرفكم معطوفا على ذلك المحذوف ، وقيل : إن (إذا) اسم كما في قولهم : إذا يقوم زيد إذا يقوم عمرو ، و (حتى) حرف جر بمعنى إلى متعلقة بـ (صدقكم) باعتبار تضمنه معنى النصر كأنه قيل : لقد نصركم الله تعالى إلى وقت فشلكم وتنازعكم إلخ ، و ثم صرفكم حينئذ عطف على ذلك ، وهاتان الجملتان الظرفيتان اعتراض بين المتعاطفين .

ولقد عفا عنكم بمحض التفضل أو لما علم من عظيم ندمكم على المخالفة ، قيل : والمراد بذلك العفو عن الذنب وهو عام لسائر المنصرفين .

ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري عن عثمان بن موهب قال : جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال : إني سائلك عن شيء فحدثني به أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد ؟ قال : نعم . قال : فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال : نعم . قال : فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال : نعم . فكبر . فقال ابن عمر : تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه ، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله تعالى عفا عنه ، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكانت مريضة ، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه .

وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه ، فبعث عثمان فكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بيده اليمنى وضرب بها على يده فقال : هذه يد عثمان اذهب بها الآن معك ، وقال البلخي : إنه عفو عن الاستئصال ، وروي ذلك عن ابن جريج ، وزعم أبو علي الجبائي أنه خاص بمن لم يعص الله تعالى بانصرافه ، والكل خلاف الظاهر ، وقد يقال : الداعي لقول البلخي : إن العفو عن الذنب سيأتي ما يدل عليه بأصرح وجه ، والتأسيس خير من التأكيد ، وكلام ابن عمر رضي الله تعالى عنه ليس فيه أكثر من أن الله تعالى عفا عن ذنب الفارين وهو صريح الآية الآتية ، وأما أنه يفهم منه ولو بالإشعار أن المراد من العفو هنا العفو عن الذنب فلا أظن منصفا يدعيه .

والله ذو فضل على المؤمنين (152) تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، وفيه إيذان بأن ذلك العفو ولو كان بعد التوبة بطريق التفضل لا الوجوب أي شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو أو في جميع الأحوال أديل لهم أو أديل عليهم ، إذ الابتلاء أيضا رحمة ، والتنوين للتفخيم ، والمراد بالمؤمنين إما المخاطبون ، والإظهار في مقام الإضمار للتشريف والإشعار بعلة الحكم ، وإما الجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا ، ولعل التعميم هنا وفيما قبله أولى من التخصيص ، وتخصيص الفضل بالعفو أولى من تخصيصه بعدم الاستئصال كما زعمه البعض .

التالي السابق


الخدمات العلمية