ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وتوجيهه إليه تشريفا له بالتسلية ، مع الإيذان بأنه الرئيس المعتنى بشئونه ، والمراد من الموصول : إما المنافقون المتخلفون وإليه ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد وابن إسحاق ، وإما قوم من العرب ارتدوا عن الإسلام ؛ لمقاربة عبدة الأوثان ، وإليه ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13980أبو علي الجبائي ، وإما سائر الكفار ، وإليه ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن ، وإما المنافقون وطائفة من اليهود حسبما عين في قوله تعالى :
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا ، وإليه ذهب بعضهم ، ومعنى ( يسارعون في الكفر ) يقعون فيه سريعا لغاية حرصهم عليه ، وشدة رغبتهم فيه ؛ ولتضمن المسارعة معنى الوقوع تعدت "بفي" دون "إلى" ، الشائع تعديتها بها كما في
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة وغيره وأوثر ذلك ؛ قيل : للإشعار باستقرارهم في الكفر ، ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها ، كما في قوله سبحانه :
يسارعون في الخيرات في حق المؤمنين ، وأما إيثار كلمة "إلى" في آيتها ؛ فلأن المغفرة والجنة منتهى المسارعة وغايتها ، والموصول فاعل (يحزنك) ، وليست الصلة علة لعدم الحزن ، كما هو المعهود في مثله ؛ لأن الحزن من الوقوع في الكفر هو الأمر اللائق ؛ لأنه قبيح عند الله تعالى ، يجب أن يحزن من مشاهدته ، فلا يصح النهي عن الحزن من ذلك ، بل العلة هنا
[ ص: 133 ] ما يترتب على تلك المسارعة من مراغمة المؤمنين ، وإيصال المضرة إليهم ، إلا أنه عبر بذلك مبالغة في النهي .
والمراد : لا يحزنك خوف أن يضروك ، ويعينوا عليك ، ويدل على ذلك إيلاء قوله تعالى :
إنهم لن يضروا الله شيئا ردا وإنكارا لظن الخوف ، والكلام على حذف مضاف ، والمراد أولياء الله ؛ مثلا للقرينة العقلية عليه ، وفي حذف ذلك ، وتعليق نفي الضرر به تعالى تشريف للمؤمنين ، وإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه وتعالى ، وفي ذلك مزيد مبالغة في التسلية . ( وشيئا ) في موضع المصدر أي : لن يضروه ضررا ما ، وقيل : مفعول بواسطة حرف الجر ، أي : لن يضروه بشيء ما أصلا ، وتأويل يضروا بما يتعدى بنفسه إلى مفعولين مما لا داعي إليه ، ولعل المقام يدعو إلى خلافه ، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع يحزن بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن ، إلا قوله تعالى :
لا يحزنهم الفزع الأكبر فإنه فتحها ، وضم الزاي ، وقرأ الباقون كما قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع في المستثنى
، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11962أبو جعفر عكس ما قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع ، والماضي على قراءة الفتح حزن ، وعلى قراءة الضم من أحزن ، ومعناهما واحد إلا أن حزن لغة قليلة ، وقيل : حزنته بمعنى أحدثت له حزنا ، وأحزنته بمعنى عرضته للحزن ، وقال الخليل : خزنته بمعنى جعلت فيه حزنا ، كدهنته بمعنى : جعلت فيه دهنا وأحزنته بمعنى جعلته حزينا ، وقرئ: (يسرعون) بغير ألف من أسرع ، ويسارعون بالإمالة والتفخيم .
يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة استئناف لبيان الموجب لمسارعتهم ، كأنه قيل : لم يسارعون في الكفر مع أنهم لا ينتفعون به ؟ فأجيب بأنه تعالى يريد أن لا يجعل لهم نصيبا ما من الثواب في الآخرة ، فهو يريد ذلك منهم ، فكيف لا يسارعون ؟ وفيه دليل على أن الكفر بإرادة الله تعالى ، وإن عاقب فاعله وذمه؛ لأن ذلك لسوء استعداده المقتضي إفاضة ذلك عليه ، وذكر بعض المحققين أن في ذكر الإرادة إيذانا بكمال خلوص الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم ، حيث تعلقت بهما إرادة أرحم الراحمين ، وزعم بعضهم أنه مبني على مذهب الاعتزال ، وليس كذلك كما لا يخفى ؛ لأنه لم يقل : لم يرد كفرهم ، ولا رمز إليه ، وصيغة المضارع للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها ، ويرجع إلى دوام واستمرار منشأ هذا المراد ، وهو الكفر ، ففيه إشارة إلى بقائهم على الكفر حتى يهلكوا فيه ، ولهم مع هذا الحرمان من الثواب بالكلية عذاب عظيم ، لا يقدر قدره . نقل عن بعضهم أنه لما دلت المسارعة في الشيء على عظم شأنه ، وجلالة قدره عند المسارع وصف عذابه بالعظم ؛ رعاية للمناسبة ، وتنبيها على حقارة ما سارعوا فيه وخساسته في نفسه ، وقيل : إنه لما دل قوله تعالى :
إنهم لن يضروا الله شيئا على عظم قدر من قصدوا إضراره وصف العذاب بالعظم ؛ إيذانا بأن قصد إضرار العظيم أمر عظيم ، يترتب عليه العذاب العظيم ، والجملة إما حال من الضمير في "لهم" أي : يريد الله تعالى حرمانهم من الثواب معدا لهم عذاب عظيم ، وإما مبتدأة لحظهم من العذاب إثر بيان أن لا شيء لهم من الثواب .
وزعم بعضهم أن هاتين الجملتين في موضع التعليل ؛ للنهي السابق ، وأن المعنى : ولا يحزنك أنهم يسارعون في إعلاء الكفر وهدم الإسلام لا خوفا على الإسلام ولا ترحما عليهم ، أما الأول فلأنهم لن يضروا الله شيئا ، فلا يقدرون على هدم دينه الذي يريد إعلاءه ، وحينئذ لا حاجة إلى إرادة أولياء الله ، وأما الثاني فلأنه يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة ، ولهم عذاب عظيم .
وأستأنس له بأنه كثيرا ما وقع نهي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن إيقاعه نفسه الكريمة في المشقة لهدايتهم
[ ص: 134 ] وعن كونه ضيق الصدر لكفرهم ، وخوطب بأنه : ( ما عليك إلا البلاغ ) ، ولست عليهم بمسيطر ، ولا يخلو عن بعد .