وقوله سبحانه
يغفر لكم من ذنوبكم مجزوم في جواب الأمر واختلف في ( من ) فقيل ابتدائية وإن لم تصلح هنا لمقارنة إلى وابتداء الفعل من جانبه تعالى على معنى أنه سبحانه يبتدئهم بعد إيمانهم بمغفرة ذنوبهم إحسانا منه عز وجل وتفضلا، وجوز أن يكون من جانبهم على معنى أول ما يحصل لهم بسبب إيمانهم مغفرة ذنوبهم وليس بذاك وقيل بيانية ورجوعها إلى معنى الابتدائية استبعده
nindex.php?page=showalam&ids=14374الرضي ويقدر قبلها مبهم يفسر بمدخولها أي يغفر لكم أفعالكم التي هي الذنوب، وقيل: زائدة على رأي
nindex.php?page=showalam&ids=13673الأخفش المجوز لزيادتها مطلقا وجزم بذلك هنا وقيل تبعيضية أي يغفر لكم بعض ذنوبكم واختاره بعض . واختلف في البعض المغفور فذهب قوم إلى أنه حقوق الله تعالى فقط السابقة على الإيمان وآخرون إلى أنه ما اقترفوه قبل
[ ص: 70 ] الإيمان مطلقا الظاهر ما ورد من أن الإيمان يجب ما قبله واستشكل ذلك
العز بن عبد السلام في الفوائد المنتشرة وأجاب عنه فقال: كيف يصح هذا على رأي
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه الذي لا يرى
كالأخفش زيادتها في الموجب بل يقول إنها للتبعيض مع أن الإسلام يجب ما قبله بحيث لا يبقى منه شيء والجواب أن إضافة الذنوب إليهم إنما تصدق حقيقة فيما وقع إذ ما لم يقع لا يكون ذنبا لهم وإضافة ما لم يقع على طريق التجوز كما في
واحفظوا أيمانكم [المائدة: 89] إذا المراد بها الأيمان المستقبلة وإذا كانت الإضافة تارة تكون حقيقة وتارة تكون مجازا،
فسيبويه يجمع بين الحقيقة والمجاز فيها وهو جائز .
يعني عند أصحابه الشافعية، ويكون المراد من بعض ذنوبكم البعض الذي وقع انتهى ولا يحتاج إلى حديث الجمع من خص الذنوب المغفورة بحقوق الله عز وجل وهاهنا بحث وهو أن الحمل على التبعيض يأباه
يغفر لكم من ذنوبكم و
إن الله يغفر الذنوب جميعا ) [الزمر: 53] وقد نص
البعلي في شرح الجمل على أن ذلك هو الذي دعا
nindex.php?page=showalam&ids=13673الأخفش للجزم بالزيادة هنا وجعله
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب حجة له ورده بعض الأجلة بأن الموجبة الجزئية من لوازم الموجبة الكلية ولا تناقض بين اللازم والملزوم ومبناه الغفلة عن كون مدلول من التبعيضية هي البعضية المجردة عن الكلية المنافية لها لا الشاملة لما في ضمنها المجتمعة معها وإلا لما تحقق الفرق بينها وبين من البيانية من جهة الحكم ولما تيسر تمشية الخلاف بين
الإمام أبي حنيفة وصاحبيه فيما إذا قال:
طلقي نفسك من ثلاث ما شئت بناء على أن من للتبعيض عنده وللبيان عندهما قال في الهداية وإن قال لها طلقي نفسك من ثلاث ما شئت فلها أن تطلق نفسها واحدة وثنتين ولا تطلق ثلاثا عند
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة وقالا تطلق ثلاثا إن شاءت لأن كلمة ما محكمة في التعميم وكلمة من قد تستعمل للتمييز فتحمل على تمييز الجنس
ولأبي حنيفة أن كلمة من حقيقة في التبعيض وما للتعميم فيعمل بهما انتهى .
ولا خفاء في أن بناء الجواب المذكور على كون من للتبعيض إنما يصح إذا كان مدلولها حينئذ البعضية المجردة المنافية للكلية ومن هنا تعجب من صاحب التوضيح في تقرير الخلاف المذكور حيث استدل على أولوية التبعيض بتيقنه ولم يدر أن البعض المراد قطعا على تقدير البيان البعض العام الشامل لما في ضمن الكل لا البعض المجرد المراد هاهنا .
فبالتعليل على الوجه المذكور لا يتم التقريب بل لا انطباق بين التعليل والمعلل على ما قيل . وصوب
العلامة التفتازاني حيث قال: علقه على التلويح مستدلا على أن البعضية التي تدل عليها من التبعيضية هي البعضية المجردة المنافية للكلية لا البعضية التي هي أعم من أن تكون في ضمن الكل أو بدونه لاتفاق النحاة على ذلك حيث احتاجوا إلى التوفيق بين قوله تعالى
يغفر لكم من ذنوبكم وقوله تعالى
إن الله يغفر الذنوب جميعا فقالوا لا يبعد أن يغفر سبحانه الذنوب لقوم وبعضها لآخرين أو خطاب البعض لقوم
نوح عليه السلام وخطاب الكل لهذه الأمة، ولم يذهب أحد إلى أن التبعيض لا ينافي الكلية ولم يصوب
الشريف في رده عليه قائلا وفيه بحث إذ الرضي صرح بعدم المنافاة بينهما حيث قال: ولو كان أيضا خطابا لأمة واحدة فغفران بعض الذنوب لا يناقض غفران كلها بل عدم غفران بعضها يناقض غفران كلها لأن قول
nindex.php?page=showalam&ids=14374الرضي غير مرتضى لما عرفت من أن مدلول التبعيضية البعضية المجردة . .
واعترض قول النحاة أو خطاب البعض لقوم
نوح عليه السلام وخطاب الكل لهذه الأمة بأن الإخبار عن مغفرة البعض ورد في مواضع منها قوله تعالى في سورة [إبراهيم: 10]
يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ومنها في سورة [الأحقاف: 31] يا
قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ومنها ما هنا وهو الذي ورد في قوم
نوح عليه السلام، وأما ما ذكر في الأحقاف فقد ورد في الجن، وما ورد في إبراهيم فقد ورد في قوم
نوح وعاد وثمود على ما أفصح به السياق فكيف يصح ما ذكروه . وقيل جيء بمن في خطاب الكفرة دون المؤمنين في جميع
[ ص: 71 ] القرآن تفرقة بين الخطابين .
ووجه بأن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفار مرتبة على الإيمان وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك، فيتناول الخروج عن المظالم واعترض بأن التفرقة المذكورة إنما تتم لو لم يجئ الخطاب للكفرة على العموم وقد جاء كذلك كما في سورة [الأنفال: 38]
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقد أسلفنا ما يتعلق بهذا المقام أيضا فتذكر وتأمل
ويؤخركم إلى أجل مسمى هو الأمد الأقصى الذي قدره الله تعالى بشرط الإيمان والطاعة وراء ما قدره عز وجل لهم على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان فإن وصف الأجل بالمسمى وتعليق تأخيرهم إليه بالإيمان والطاعة صريح في أن لهم أجلا آخر لا يجاوزونه إن لم يؤمنوا وهو المراد بقوله تعالى
إن أجل الله أي ما قدره عز وجل لكم على تقدير بقائكم على ما أنتم عليه
إذا جاء وأنتم على ما أنتم
لا يؤخر فبادروا إلى الإيمان والطاعة قبل مجيئه حتى لا يتحقق شرطه الذي هو بقاؤكم على الكفر والعصيان فلا يجيء ويتحقق شرط التأخير إلى الأجل المسمى فتؤخروا إليه .
وجوز أن يراد به وقت إتيان العذاب المذكور في قوله سبحانه
من قبل أن يأتيهم عذاب أليم فإنه أجل مؤقت له حتما وأيا ما كان لا تناقض بين يؤخركم وإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر كما يتوهم وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في ذلك ما حاصله أن الأجل أجلان وأجل الله حكمه حكم المعهود والمراد منه الأجل المسمى الذي هو آخر الآجال، والجملة عنده تعليل لما فهم من تعليقه سبحانه التأخير بالأجل المسمى وهو عدم تجاوز التأخير عنه، والأول هو المعول عليه فإن الظاهر أن الجملة تعليل للأمر بالعبادة المستتبعة للمغفرة والتأخير إلى الأجل المسمى فلا بد أن يكون المنفي عند مجيء الأجل هو التأخير الموعود فكيف يتصور أن يكون ما فرض مجيئه هو الأجل المسمى الذي هو آخر الآجال
لو كنتم تعلمون أي لو كنتم من أهل العلم لسارعتم لما آمركم به لكنكم لستم من أهله في شيء فلذا لم تسارعوا .
فجواب ( لو ) مما يتعلق بأول الكلام ويجوز أن يكون مما يتعلق بآخره أي لو كنتم من أهل العلم لعلمتم ذلك أي عدم تأخير الأجل إذا جاء وقته المقدر له، والفعل في الوجهين منزل منزلة اللازم ويجوز أن يكون محذوفا لقصد التعميم أي لو كنتم تعلمون شيئا ورجح الأول بعدم احتياجه للتقدير والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار النفي المفهوم من ( لو ) وجعل العلم المنفي هو العلم النظري لا الضروري ولا ما يعمه فإنه مما لا ينفي اللهم إلا على سبيل المبالغة .