سورة الجن
وتسمى قل أوحي إلي وهي مكية بالاتفاق وآيها بلا خلاف ثمان وعشرون آية ووجه اتصالها قال
الجلال السيوطي فكرت فيه مدة فلم يظهر لي سوى أنه سبحانه قال في سورة [نوح: 10، 11]
استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا وقال عز وجل في هذه السورة لكفار
مكة وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا [الجن: 16] وهذا وجه بين في الارتباط انتهى وفي قوله لكفار
مكة شيء ستعلمه إن شاء الله تعالى ويجوز أن يضم إلى ذلك اشتمال هذه السورة على شيء مما يتعلق بالسماء كالسورة السابقة وذكر العذاب لمن يعصي الله عز وجل في قوله سبحانه
ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا [الجن: 23] فإنه يناسب قوله تعالى
أغرقوا فأدخلوا نارا [نوح: 25] على وجه .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان في ذلك أنه تعالى لما حكى تمادي قوم
نوح في الكفر والعكوف على عبادة الأصنام وكان أول رسول إلى أهل الأرض كما أن
محمدا صلى الله عليه وسلم آخر رسول إلى أهل الأرض
والعرب الذين هو منهم صلى الله عليه وسلم كانوا عباد أصنام كقوم
نوح حتى أنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء أي أو عينها وكان ما جاء به عليه الصلاة والسلام هاديا إلى الرشد وقد سمعته
العرب وتوقف عن الإيمان به أكثرهم أنزل الله تعالى سورة الجن وجعلها إثر سورة
نوح تبكيتا
لقريش والعرب في كونهم تباطؤوا عن الإيمان وكانت الجن خيرا منهم إذ أقبل للإيمان من أقبل منهم وهم من غير جنس الرسول عليه الصلاة والسلام حتى كادوا يكونون عليه لبدا ومع ذلك التباطي فهم مكذبون له ولما جاء به حسدا وبغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فقال عز من قائل: بسم الله الرحمن الرحيم
قل أوحي إلي وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12356ابن أبي عبلة والعتكي عن
أبي عمرو وجؤبة بن عائذ الأسدي « ( وحي) » بلا همزة وهو بمعنى أوحي بالهمز ومنه قول
العجاج :
وحي لها القرار [ ص: 82 ] فاستقرت
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15948زيد بن علي وجؤبة فيما روى عنه
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي nindex.php?page=showalam&ids=12356وابن أبي عبلة في رواية «أحي» بإبدال واو وحي همزة كما قالوا في وعد أعد قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة وقد أطلقه
nindex.php?page=showalam&ids=15141المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإعاء وإسادة وهذا أحد قولين
للمازني والقول الآخر قصر ذلك على السماع وما ذكره من إطلاق الجواز في المضمومة تعقب بأن المضمومة قد تكون أولا وحشوا وآخرا ولكل منها أحكام وفي بعضها خلاف وتفصيل مذكور في كتب النحو فليراجع وزاد بعض الأجلة قلب الواو والمضموم ما قبلها فقال إنه أيضا مقيس مطرد وإنه قد يرد ذلك في المفتوحة كأحد وعلى جميع القراءات الجار متعلق بما عنده ونائب الفاعل
أنه إلخ على أنه في تأويل المصدر والضمير للشأن
استمع أي القرآن كما ذكر في الأحقاف وقد حذف لدلالة ما بعده عليه
نفر من الجن النفر في المشهور ما بين الثلاثة والعشرة .
وقال
الحريري في درته: إن النفر إنما يقع على الثلاثة من الرجال إلى العشرة وقد وهم في ذلك فقد يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح وقد ذكره غير واحد من أهل اللغة وفي كلام
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي حدثني بضعة عشر نفرا ولا يختص بالرجال بل ولا بالناس لإطلاقه على الجن هنا وفي المجمل الرهط والنفر يستعمل إلى الأربعين والفرق بينهما أن الرهط يرجعون إلى أب واحد بخلاف النفر وقد يطلق على القوم ومنه قوله تعالى
وأعز نفرا [الكهف: 34] وقول
امرئ القيس :
فهو لا تنمي رميته ما له لا عد من نفره
وقال
الإمام الكرماني للنفر معنى آخر في العرف وهو الرجل وأراد بالعرف عرف اللغة لأنه فسر به الحديث الصحيح فليحفظ ( والجن ) واحده جني كروم ورومي وهم أجسام عاقلة تغلب عليها النارية كما يشهد له قوله تعالى
وخلق الجان من مارج من نار [الرحمن: 15] وقيل الهوائية قابلة جميعها أو صنف منها للتشكل بالأشكال المختلفة من شأنها الخفاء، وقد ترى بصور غير صورها الأصلية بل وبصورها الأصلية التي خلقت عليها كالملائكة عليهم السلام وهذا للأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ومن شاء الله تعالى
من خواص عباده عز وجل، ولها قوة على الأعمال الشاقة ولا مانع عقلا من أن تكون بعض الأجسام اللطيفة النارية مخالفة لسائر أنواع الجسم اللطيف في الماهية ولها قبول لإفاضة الحياة والقدرة على أفعال عجيبة مثلا .
وقد قال أهل الحكمة الجديدة بأجسام لطيفة أثبتوا لها من الخواص ما يبهر العقول فلتكن أجسام الجن على ذلك النحو من الأجسام وعالم الطبيعة أوسع من أن تحيط بحصر ما أودع فيه الأفهام وأكثر الفلاسفة على إنكار الجن .
وفي رسالة الحدود
لابن سينا الجني حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة وهذا شرح الاسم وظاهره نفي أن يكون لهذه الحقيقة وجود في الخارج ونفي ذلك كفر صريح كما لا يخفى، واعترف جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات بوجودهم ويسمونهم بالأرواح السفلية والمشهور أنهم زعموا أنها جواهر قائمة بأنفسها ليست أجساما ولا جسمانية وهي أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض فبعضها خيرة وبعضها شريرة ولا يعرف عدد أنواعها وأصنافها إلا الله عز وجل ولا يبعد على هذا أن يكون في أنواعها ما يقدر على أفعال شاقة عظيمة يعجز عنها البشر بل لا يبعد أيضا على ما قيل أن يكون لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم ومن الناس من زعم أن الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها ازدادت قوة وكمالا بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق حدوث بدن آخر مشابه لما كان لتلك النفس المفارقة من البدن تعلقت تلك النفس به تعلقا ما وتصير كالمعاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة
[ ص: 83 ] سمي ذلك المعين ملكا وتلك الإعانة إلهاما وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطانا وتلك الإعانة وسوسة والكل مخالف لأقوال السلف .
وظاهر الآيات والأحاديث وجمهور أرباب الملل معترفون بوجودهم كالمسلمين وإن اختلفوا في حقيقتهم وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من آكام المرجان . وفي التفسير الكبير طرف مما يتعلق بذلك فارجع إليه إن أردته .
واختلف في عدد المستمعين فقيل سبعة فعن
زر ثلاثة من أهل
حران وأربعة من أهل
نصيبين قرية
باليمن غير القرية التي
بالعراق ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16584عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ألفا من
جزيرة الموصل وأين سبعة أو تسعة من اثني عشر ألفا ولعل النفر عليه القوم وفي الكشاف كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم، والآية ظاهرة في أنه صلى الله عليه وسلم علم استماعهم له بالوحي لا بالمشاهدة وقد وقع في الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام رآهم وجمع ذلك بتعدد القصة .
قال في آكام المرجان ما محصله في الصحيحين في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=hadith&LINKID=650731ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما انطلق بطائفة من الصحابة لسوق عكاظ قد حيل بين الجن والسماء بالشهب فقالوا: ما ذاك إلا لشيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمر من ذهب لتهامة منهم به عليه الصلاة والسلام وهو يصلي الفجر بأصحابه بنخلة فلما استمعوا له قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين السماء ورجعوا إلى قومهم وقالوا: يا قومنا إلخ فأنزل الله تعالى عليه قل أوحي إلخ ثم قال ونفى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس إنما هو في هذه القصة واستماعهم تلاوته صلى الله عليه وسلم في الفجر في هذه القصة لا مطلقا ويدل عليه قوله تعالى
وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن [الأحقاف: 29] إلخ فإنها تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كلمهم ودعاهم وجعلهم رسلا لمن عداهم كما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي وروى
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود عن
nindex.php?page=showalam&ids=16588علقمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود nindex.php?page=hadith&LINKID=657690عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن قال وانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نيرانهم» إلخ وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات .
وقال
ابن تيمية إن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس علم ما دل عليه القرآن ولم يعلم ما علمه
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=3وأبو هريرة من إتيان الجن له صلى الله عليه وسلم ومكالمتهم إياه عليه الصلاة والسلام وقصة الجن كانت قبل الهجرة بثلاث سنين . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15472الواقدي كانت سنة إحدى عشرة من النبوة
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ناهز الحلم في حجة الوداع فقد علمت أن قصة الجن وقعت ست مرات .
وفي شرح
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي من طرق شتى عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود nindex.php?page=hadith&LINKID=63189أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء ثم انصرف فأخذ بيدي حتى أتينا مكان كذا فأجلسني وخط علي خطا ثم قال: «لا تبرحن خطك» فبينما أنا جالس إذ أتاني رجال منهم كأنهم الزط فذكر حديثا طويلا وأنه صلى الله عليه وسلم ما جاء إلى السحر قال وجعلت أسمع الأصوات ثم جاء عليه الصلاة والسلام فقلت: أين كنت يا رسول الله؟ فقال: «أرسلت إلي الجن» فقلت: ما هذه الأصوات التي سمعت؟ قال: «هي أصواتهم حين ودعوني وسلموا علي» .
وقد يجمع الاختلاف في القلة والكثرة بأن ذلك لتعدد القصة أيضا والله تعالى أعلم . واختلف فيما استمعوه فقال
nindex.php?page=showalam&ids=16584عكرمة اقرأ باسم ربك [العلق: 1] وقيل سورة الرحمن
فقالوا أي لقومهم عند رجوعهم إليهم
إنا سمعنا قرآنا أي كتابا مقروءا على ما فسره به بعض الأجلة وفسر بذلك للإشارة إلى أن ما ذكروه في وصفه مما يأتي وصف له كله دون المقروء منه فقط، والمراد أنه من الكتب السماوية والتنوين للتفخيم أي قرآنا جليل الشأن
عجبا بديعا مباينا لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى وهو مصدر وصف به للمبالغة .