وبنينا فوقكم سبعا شدادا أي: سبع سماوات قوية الخلق محكمة لا يسقط منها ما يمنعكم المعاش، والتعبير عن خلقها بالبناء للإشارة إلى تشبيهها بالقباب المبنية على سكنتها. وقيل: للإشارة إلى أن خلقها على سبيل التدريج وليس بذاك. وفيه أن السماء خيمية لا سطح مستو وفي الآثار ما يشهد له ولا يأباه جعلنا سقفا في آية أخرى. وقد صح في العرس ما يشهد بخيمية أيضا والفلاسفة السالفون على استدارتها ويطلقون عليها اسم الفلك واستدلوا على ذلك حسب أصولهم بعد الاستدلال على استدارة السطح الظاهر من الأرض ولا يكاد يتم لهم دليل عليه قالوا الذي يدل على استدارة السماء هو أنه متى قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت الرأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا أبعاد ممرات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجدناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن، كذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلا بمثل تلك النسب فتحدب السماء في العرش مشابه لتحدب الأرض فيه، لكن هذا التشابه موجود في كل خط من خطوط العرض، وكذا في كل خط من خطوط الطول، فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حسا، فكذا سطح السماء الموازي له وأيضا أصحاب الأرصاد دونوا مقادير أجرام الكواكب وأبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة في وقت واحد كما في أنصاف نهار تلك الأماكن مثلا متساوية، وهذا يدل على تساوي أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لاستدارة الأرض المستلزم لكون السماء كرية، وزعموا أن هذين أقرب ما يتمسك بهما في الاستدارة من حيث النظر التعليمي وفي كل مناقشة، أما الثاني فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الفلك عندهم ساكنا والكواكب متحركا؛ إذ لو كان السماء متحركا جاز أن يكون مربعا ويكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الأجرام للكواكب حاصلا. وأما الأول فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الاعتدال المذكور موجودا في كل خط من خطوط الطول والعرض وهو غير معلوم، وأما غير ما ذكر من أدلتهم فمذكور مع ما فيه في نهاية الإدراك في دراية الأفلاك فارجع إليه إن أردته.
بقي هاهنا بحث؛ وهو أن العطف إذا كان على الفعل المنفي بلم داخلا في حكمه يلزم أن يكون بناء سبع سماوات شداد فوق معلوما للمخاطبين وهم مشركو
مكة المنكرون للبعث كما سمعت ليتأتى تقريرهم به كسائر الأمور السابقة واللاحقة، فيقال: إن كون السماوات سبعا مما لا يدرك بالمشاهدة وهم المكذبون بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلا يصدقونه بمثل ذلك مما معرفته بحسب الظاهر إنما هي من طريق الوحي، وأجيب بأنهم علموا ذلك بواسطة مشاهدتهم اختلاف حركات السيارات السبع مع اختلاف أبعادها بعضها عن بعض؛ وذلك أنهم علموا السيارات واختلاف حركاتها وعلموا أن بعضها فوق بعض لخسف بعضها بعضا فقالوا في بادئ النظر بسبع سماوات كل سماء لكوكب من هاتك الكواكب ولا يلزمنا البحث عما قالوا الثوابت وفي المحرك لها وللسبع بالحركة اليومية؛ إذ هو وراء ما نحن فيه. واعترض بأن هذا لا يتم إلا إذا كانوا قائلين بأن السماء
[ ص: 9 ] عبارة عن الفلك وأنها تتحرك على الاستدارة ويكون أوجها حضيضا وحضيضها أوجا، ولعلهم لا يقولون بذلك وإنما يقولون كبعض السلف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن السماء ساكنة والكوكب متحرك، والفلك إنما هو مجراه وحينئذ فيجوز أن تكون السبع على اختلاف حركاتها وأبعادها في ثخن سماء واحدة تجري في أفلاك ومجار لها على الوجه المحسوس ويجوز أيضا غير ذلك كما لا يخفى، وأيضا لو كان علمهم بذلك مما ذكر لقالوا بالتداوير ونحوها أيضا كما قال بذلك أهل الهيئة السالفون لأن اختلاف الحركات يقتضيه بزعمهم لا سيما في المتحيرة، ولو كان
العرب قائلين به لوقع في أشعارهم بل لا يبعد أنه لو ذكر لهم ذاكر التداوير والمتممات الحاوية والمحوية مثلا لنسبوه إلى ما يكره. وقيل إنهم ورثوا علم ذلك عن أسلافهم السامعين له ممن يعتقدون صدقه
كإسماعيل عليه السلام ويجوز أن يكونوا سمعوه من أهل الكتاب ولما لم يروه منافيا لما هم عليه اعتقدوه ويكفي في صحة التقرير هذا المقدار من العلم، وتعقب بأنه على هذا لا تنتظم المتعاطفات المقرر بها في سلك واحد من العلم والأمر فيه سهل، وقيل: نزلوا منزلة العالمين به لظهور دليله وهو إخبار من دلت المعجزة على صدقه به وفيه بعد، وقيل: الخطاب للناس مؤمنيهم ومشركيهم وغلب المؤمنون على غيرهم في التقرير المقتضي لسابقية العلم وهو كما ترى. واختار بعض أن العطف على ما يقتضيه الإنكار التقريري فيكون الكلام في قوة: قد جعلنا الأرض إلى آخره.
وبنينا فوقكم سبعا شدادا وهو حينئذ ابتداء إخبار منه عز وجل بالبناء المذكور فلا يقتضي سابقية علم، وتعقب بأن العطف على الفعل المنفي ب «لم» أوفق بالاستدلال بالمذكورات على صحة البعث كما لا يخفى فتأمل. وتقديم الظرف على المفعول للتشويق إنه مع مراعاة الفواصل.