علمت نفس ما أحضرت جواب
إذا على أن المراد بها زمان واحد ممتد يشع الأمور المذكورة مبدؤه قبيل النفخة الأولى أو هي ومنتهاه فصل القضاء بين الخلائق لكن لا بمعنى أن النفس تعلم ما تعلم في كل جزء من أجزاء ذلك الوقت المديد أو عند وقوع داهية من تلك الدواهي بل عند نشر الصحف إلا أنه لما كان بعض تلك الدواهي من مباديه وبعضها من روادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع كلها تهويلا للخطب وتفظيعا للحال، والمراد ب
ما أحضرت أعمالها من الخير والشر، وبحضور الأعمال إما حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها وإما حضور أنفسها على ما قالوا من أن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح على كيفيات مخصوصة وهيئات معينة حتى أن الذنوب والمعاصي تتجسم هنالك وتتصور، وحمل على ذلك نحو قوله تعالى:
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ما يؤيده، ويؤيده أيضا حديث ذبح الموت ونحوه، قيل: ولا بعد في ذلك؛ ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن كما لا يخفى على من له خبرة بأحوال الحضرات الخمس، وقد حكي عن بعض الأكابر أنهم يشاهدون في هذه النشأة الأعمال عند العروج بها إلى السماء، وكان ذلك بنوع من التجسد وأيا ما كان فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله تعالى كما يؤذن به قوله تعالى:
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا الآية. لأنها لما عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف ومعنى علمها بها على التقدير الأول اطلاعها عليها مفصلة في الصحف بحيث لا يشذ عنها منها شيء كما ينبئ عنه قولهم:
مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها . وعلى التقدير الثاني أنها تشاهدها على ما هي عليه في الحقيقة، فإن كانت صالحة تشاهدها على صور أحسن مما كانت تدركها في الدنيا؛ لأن الطاعات لا تخلو فيها عن نوع مشقة، وإن كانت سيئة تشاهدها على خلاف ما كانت عندها في الدنيا كانت مزينة لها موافقة
[ ص: 57 ] لهواها، وتنكير نفس المفيد لثبوت العلم لفرد من النفوس أو لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها قاطبة من الظهور والوضوح بحيث لا يكاد يحوم حوله شائبة قطعا يعرفه كل أحد، ولو جيء بعبارة تدل على خلافه وللرمز إلى أن تلك النفوس العالمة بما ذكر مع توفر أفرادها وتكثر أعدادها مما تستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياء والعظمة الذي أشير إلى بعض بدائع شؤونه المنبئة عن عظم سلطانه عز وجل، وفي الكشاف أن هذا من عكس كلامهم الذي يقصدون فيه الإفراط فيما يعكس عنه، ومنه قوله تعالى:
ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ومعناه: كم وأبلغ، وقول القائل:
قد أترك القرن مصفرا أنامله كأن أثوابه مجت بفرصاد
وتقول لبعض قواد العساكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: رب فارس عندي، أو لا تعدم عندي فارسا وعنده المقانب، وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه، ولكنه أراد إظهار براءته من التزيد وإنه ممن يقلل كثير ما عنده فضلا أن يتزيد فجاء بلفظ التقليل ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين، وبين بالكشف أنه يفيد ذلك مع ما في خصوص كل موقف من فائدة خاصة، وذكر أن من الفوائد هاهنا تهويل اليوم بتقليل الأنفس العالمة، وإن كن جميعها، وإظهار أنه كلام من غاية العظمة والكبرياء وأن من يغير هذه الأجرام العظام ويبدلها صفات وذوات تستقل الأنفس الإنسانية في جنب قدرته سبحانه أيما استقلال، وتعقب ذلك
أبو السعود بما لا يخلو عن نظر كما لا يخفى على ذي نظر جليل فضلا عن ذي نظر دقيق، وجوز أن يكون ذلك للإشعار بأنه إذا علمت حينئذ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كل نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي تلك التي عملت ما أحضرت فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه: لعلك ستندم على ما فعلت وربما ندم الإنسان على ما فعل فإنك لا تقصد بذلك أن ندمه مرجو الوجود لا متيقن به أو نادر الوجود بل تريد أن العاقل يجب عليه أن يجتنب أمرا يرجى منه الندم أو قل ما يقع فيه فكيف إذا كان قطعي الوجود، كثير الوقوع، واشتهر أن النكرة هنا في معنى العموم وهي قد تعم في الإثبات إذا اقتضى المقام أو نحوه ذلك، ومنه قول
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر لبعض أهل
الشام وقد سأله عن المحرم إذا قتل جرادة أيتصدق بتمرة فدية لها: تمرة خير من جرادة.
قيل: ولهذا العموم ساغ الابتداء بالنكرة فيه، وقول بعض: إنه لا عموم فيها بل العموم جاء من تساوي نسبة الجزء إلى أفراد الجنس، قيل: مبني على ظن منافاة العموم للوحدة والإفراد، وأنت تعلم أن ذلك إنما ينافي العموم الشمولي دون البدلي، وقال بعض: لا يبعد أن يقال: استفيد العموم بجعلها في حيز النفي معنى؛ لأن
علمت نفس في معنى: لم تجهل نفس؛ لأن الحكم بالشيء يستلزم نفي ضده ليس بشيء، وإلا لعمت كل نكرة في الإثبات بنحو هذا التأويل. وعن
عبد الله بن مسعود أن قارئا قرأ هذه السورة عنده فلما بلغ:
علمت نفس ما أحضرت قال: وانقطاع ظهرياه.