صفحة جزء
وقوله تعالى: إن مع العسر يسرا يحتمل أن يكون تكريرا للجملة السابقة لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب كما هو شأن التكرير، ويحتمل أن يكون وعدا مستأنفا وأل والتنوين على ما سبق بيد أن المراد باليسر هنا ما تيسر لهم في أيام الخلفاء أو يسر الآخرة، واحتمال الاستئناف هو الراجح لما علم من فضل التأسيس على التأكيد كيف وكلام الله تعالى محمول على أبلغ الاحتمالين وأوفاهما، والمقام كما تقدم مقام التسلية والتنفيس والاستئناف نحوي، وتجرده عن الواو أكثر من أن يحصى، ولا يحتاج إلى بيان نكتة لأنه الأصل، وقال عصام الدين: لا يبعد أن تكون نكتة الفصل كونه في صورة التكرير فاحفظه، فإنه من البدائع وتعقب بنحو ما ذكرنا وكان الظاهر على ما سمعت من المراد باليسر تعريفه إلا أنه أوثر التنكير للتفخيم. وقد يقال: إن فائدته الظهور في التأسيس لأن النكرة المعادة ظاهرها التغاير والإشعار بالفرق بين العسر واليسر، ويظهر مما ذكر وجه ما أخرجه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي عن الحسن قال: خرج رسول الله عليه الصلاة والسلام فرحا مسرورا وهو يضحك ويقول: «لن يغلب عسر يسرين، إن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا».

وأفاد بعض الأجلة أن الكلام تقرير لما قبله وعدة له صلى الله تعالى عليه وسلم بتيسير كل عسير. فالفاء قيل: سببية، ودخلت على السبب وإن تعارف دخولها على المسبب لتسبب ذكره عن ذكره فإن ذكر أحدهما يستدعي ذكر الآخر، وأل في العسر للاستغراق فيدخل فيه سبب النزول. والتنوين في ( يسرا ) على ما سبق كأنه قيل: فعلنا لك كذا وكذا؛ لأن مع كل عسر كضيق الصدر والوزر المنقض للظهر والخمول يسرا عظيما كالشرح والوضع ورفع الذكر فلا تيأس من روح الله تعالى إذا عراك ما يغمك. وقال بعضهم: الفاء للتفريع وهو من قبيل تفريع الحكم على الدليل في صورة الاستدلال بالجزئي على الكلي؛ وذلك كما تقول: أما ترى إلى الإنسان والفرس والغنم كلها تحرك الفك الأسفل عند المضغ، فاعلم بذلك أن كل حيوان يفعل كذلك فتدبر.

وفي الجملة الثانية الاحتمالان السابقان والاستئناف أيضا هو الراجح لما تقدم. وعلى اتحاد العسر وتعدد اليسر يكون الحاصل من الجملتين أن مع كل عسر يسرين عظيمين، والظاهر أن المراد بذينك اليسرين يسر دنيوي ويسر أخروي. وقيل: الظاهر أن الجملة الثانية تكرير للأولى وتأكيد لها، فاليسر فيها عين اليسر في الأولى كما أن العسر كذلك، والكلام نظير قولك: إن مع الفارس رمحا، إن مع الفارس رمحا. وهو ظاهر في وحدة الفارس والرمح. «ولن يغلب عسر يسرين». ليس نصا في الحمل على الاستئناف؛ إذ يصح على التأكيد أيضا بأن يكون مبنيا على كون التنوين في ( يسرا ) للتفخيم فحمل لقوة الرجاء على يسر الدارين وذلك يسران في الحقيقة، ويشهد لذلك أنه ليس في مصحف ابن مسعود الجملة الثانية مع أنه جاء عنه أيضا: «لن يغلب عسر يسرين» وقيل: يمكن أن يحمل الخبر على أنه لن يغلب فرد من أفراد العسر ذكر اليسر مرتين وتكريره في مقام الوعد وهو كما ترى.

والمشهور على جميع الأوجه أنه شبه التقارب بالتقارن فاستعير لفظ «مع» لمعنى بعد؛ وذلك للمبالغة في معاقبة اليسر العسر واتصاله به. واستشكل أمر الاستغراق بأن من العسر [ ص: 171 ] ما لا يعقبه يسر دنيوي كالفقر والمرض الدائمين إلى الموت ولا أراك ترضى القول بأن الموت يسر دنيوي وإن من العسر ما لا يعقبه يسر أخروي أيضا كعسر الكافر، والجواب بأن الحكم بالنسبة للمؤمنين كما يقتضيه مقام التسلية والتنفيس ويشعر به ما رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن شدة يجعل الله تعالى بعده فرجا، ولن يغلب عسر يسرين. لا يحسم الإشكال؛ إذ يبقى معه أن من عسر المؤمن ما لا يعقبه يسر دنيوي كما هو ظاهر، بل منه ما لا يعقبه يسر أخروي أيضا؛ وذلك كعسر المؤمن الجازع فإنه لا يثاب عليه في الآخرة.

والظاهر من اليسر الأخروي هو الثواب فيها على ذلك العسر، وإرادة المؤمن الصابر يبقى معها أن من عسره أيضا ما لا يعقبه اليسر الدنيوي، وأجاب بعض على وجه التأكيد بأن الاستغراق عرفي، ويكفي فيه أن العسر في الغالب يعقبه يسر. وعلى وجه التأسيس بهذا مع كون الحكم بالنسبة للمؤمن الصابر وآخر بأن الحكم مشروط بمشيئته تعالى وإن لم تذكر. قيل: ويشعر بذلك ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشر بهذه الآية أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام: «لن يغلب عسر إن شاء الله تعالى يسرين».

ويفهم من كلام بعض الأفاضل أنه يجوز على وجه التأكيد أن يكون (مع) على ظاهرها والتنوين في ( يسرا ) للنوعية ولا إشكال في الاستغراق؛ إذ لا يخلو المرء في حال العسر عن نوع من اليسر، وأقله دفع ما هو أعظم مما أصابه عنه. ويجوز أن يكون التنوين للتفخيم أيضا ويكون اليسر العظيم المقارن للعسر هو دفع ذلك الأعظم وما من عسر إلا وعند الله تعالى أعظم منه وأعظم، وأنه لا يأبى ذلك: لن يغلب عسر يسرين، إما لأن المعنى لن يغلب فرد من أفراد العسر ذكر اليسر مرتين في مقام التسلية، أو لأن الآية أفادت أن مع العسر يسرا وقد علم أن بعده آخر على ما جرت به العادة الغالبة أو فهم من قوله تعالى: سيجعل الله بعد عسر يسرا إن كان نزوله متقدما. وذكر بعضهم أن المعية على حقيقتها عند الخاصة على معنى أن كل ما فعل المحبوب محبوب، كما يشير إليه قول الشيخ عمر بن الفارض قدس سره:


وتعذيبكم عذب لدي وجوركم علي بما يقضي الهوى لكم عدل



وقول الآخر:


بر جانم از تو هر جه رسد جاي منت است     ر ناوك جفاست و ر خنجر ستم



وتسمية ذلك عسرا لأنه في نفسه وعند العامة كذلك لا بالنسبة إلى من أصابه من المحبين المستعذبين له، والكل كما ترى، ثم إنه يبعد إرادة المعية الحقيقية ما أخرج البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسا وحياله جحر فقال عليه الصلاة والسلام: «لو جاء العسر فدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه». فأنزل الله تعالى: إن مع العسر يسرا إلخ. ولفظ الطبراني: وتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فإن مع العسر يسرا .

وإرادة العهد أسلم من القيل والقال، وكأن من اختاره اختاره لذلك مع الاستئناس له بسبب النزول، لكن الذي يقتضيه الظواهر ومقاماتها الخطابية الاستغراق. فإذا قيل به فلا بد من التقييد بكون من أصابه العسر واثقا بالله تعالى حسن الرجاء به عز وجل منقطعا إليه سبحانه أو بنحو ذلك من القيود فتدبر. والله تعالى الميسر لكل ما يتعسر.

وقرأ ابن وثاب وأبو جعفر وعيسى: «العسر» و «يسرا» في الموضعين بضم السين.

التالي السابق


الخدمات العلمية