وقوله تعالى:
تنزل الملائكة والروح فيها استئناف مبين لمناط فضلها على تلك المدة المديدة، فضمير «فيها» لليلة، وزعم بعضهم أن الجملة صفة لألف شهر، والضمير لها وليس بشيء، وجوز بعضهم كون الضمير للملائكة على أن «الروح» مبتدأ لا معطوف على «الملائكة، وفيها» خبره لا متعلق ب «تنزل» والجملة حال من «الملائكة». وهو خلاف الظاهر.
والروح عند الجمهور هو
جبريل عليه السلام، وخص بالذكر لزيادة شرفه مع أنه النازل بالذكر. وقيل: ملك عظيم لو التقم السماوات والأرض كان ذلك له لقمة واحدة، وذكر في التيسير من وصفه ما يبهر العقول، والله تعالى أعلم بصحة الخبر.
وقال
كعب nindex.php?page=showalam&ids=17131ومقاتل: الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة كالزهاد الذين
[ ص: 195 ] لا نراهم إلا يوم العيد أو الجمعة. وقيل: حفظة على الملائكة كالملائكة الحفظة علينا. وقيل: خلق من خلق الله تعالى يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس، ويخلق ما لا تعلمون، وما يعلم جنود ربك إلا هو، ولعلهم على ما قيل خدم أهل الجنة. وقيل: هو
عيسى عليه السلام ينزل لمطالعة هذه الأمة وليزور النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل: أرواح المؤمنين ينزلون لزيارة أهليهم. وقيل: الرحمة كما قرئ: «لا تيأسوا من روح الله» بالضم وعلى الأول المعول، والظاهر الذي تشهد له الأخبار أن التنزل إلى الأرض، فقيل: إن ذلك لما ذكر الله تعالى بعد، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه، وقيل: ينزلون إليها للتسليم على المؤمنين. وقيل: لأن الله تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الاشتغال بطاعته في الأرض فهم ينزلون إليها لتصير طاعاتهم أكثر ثوابا كما أن الرجل منا يذهب إلى
مكة لتصير طاعته كذلك فيكون المقصود من الإخبار بذلك ترغيب الإنسان في الطاعة. وقال
عصام الدين: يحتمل أن يكون تنزلهم لإدراكها؛ إذ ليس في السماء ليل، والجملة حينئذ مقررة لما سبق لا مبينة لمناط الفضل وفيه نظر لا يخفى.
وقيل غير ذلك مما سنشير إليه إن شاء الله تعالى. وقيل: المراد تنزلهم إلى السماء الدنيا وهو خلاف المتبادر، وأنزل منه بكثير كون المراد بتنزلهم تنزلهم عن مراتبهم العلية من الاشتغال بالله تعالى والاستغراق بمطالعة جلاله عز وجل ليسلموا على المؤمنين.
واستظهر أن المراد بالملائكة عليهم السلام جميعهم، واستشكل بأن لهم كثرة عظيمة لا تتحملها الأرض وكذا السماء الدنيا؛ لأنها قبل نزولهم مملوءة؛
nindex.php?page=hadith&LINKID=888725«أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم». وأجيب بأنهم ينزلون فوجا فوجا، فمن نازل وصاعد كالحجاج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة مثلا بأسرهم لكن لا على وجه الاجتماع بل هم بين داخل وخارج. وفي التعبير ب «تنزل» المفيد للتدريج دون نزل رمز إليه، وقيل: إنهم لكونهم أنوارا لا تزاحم بينهم، فالنور إذا ملأ حجرة مثلا لا يمنع من إدخال ألف نور عليه، وهو كما ترى.
ومن الناس من خص الملائكة ببعض فرقهم وهم سكان
سدرة المنتهى أو بعض منهم.
وفي الغنية
للقطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: إذا كان ليلة القدر يأمر الله تعالى
جبريل عليه السلام أن ينزل إلى الأرض ومعه سكان
سدرة المنتهى سبعون ألف ملك، ومعهم ألوية من نور فإذا هبطوا إلى الأرض ركز
جبريل عليه السلام لواءه والملائكة عليهم السلام ألويتهم في أربعة مواطن عند
الكعبة وقبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
ومسجد بيت المقدس ومسجد طور سيناء، ثم يقول
جبريل عليه السلام: تفرقوا؛ فيتفرقون ولا يبقى دار ولا حجر ولا بيت ولا سفينة فيها مؤمن أو مؤمنة إلا دخلته الملائكة عليهم السلام إلا بيتا فيه كلب أو خنزير أو خمر أو جنب من حرام أو صورة تماثيل، فيسبحون ويقدسون ويهللون ويستغفرون لأمة
محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حتى إذا كان وقت الفجر ثم يصعدون إلى السماء فيستقبلهم سكان سماء الدنيا فيقولون لهم: من أين أقبلتم؟ فيقولون: كنا في الدنيا؛ لأن الليلة ليلة القدر لأمة
محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فيقول سكان السماء الدنيا: ما فعل الله تعالى بحوائج أمة
محمد صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فيقول
جبريل عليه السلام: إن الله تعالى غفر لصالحهم وشفعهم في طالحهم. فترفع ملائكة سماء الدنيا أصواتهم بالتسبيح والتقديس والثناء على رب العالمين شكرا لما أعطى الله تعالى هذه الأمة من المغفرة والرضوان، ثم تشيعهم ملائكة السماء الدنيا إلى الثانية كذلك وهكذا إلى السابعة، ثم يقول
جبريل عليه السلام: يا سكان السماوات ارجعوا. فيرجع ملائكة كل سماء إلى مواضعهم، فإذا وصلوا إلى
سدرة المنتهى يقول لهم سكانها: أين كنتم؟ فيجيبونهم مثل ما أجابوا أهل السماوات، فيرفع سكان
سدرة المنتهى أصواتهم بالتسبيح والتهليل والثناء فتسمع جنة المأوى ثم جنة النعيم وجنة عدن والفردوس، ويسمع عرش الرحمن فيرفع
[ ص: 196 ] العرش صوته بالتسبيح والتهليل والثناء على رب العالمين شكرا لما أعطى هذه الأمة. ويقول: إلهي بلغني عنك أنك غفرت البارحة لصالحي أمة
محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وشفعت صالحها. فيقول الله عز وجل: صدقت يا عرشي، ولأمة
محمد عليه الصلاة والسلام عندي من الكرامة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وفي رواية عن
كعب: نزول جميع ملائكة
سدرة المنتهى مع
جبريل عليهم السلام ولا يعلم عددهم إلا الله تعالى، وأن
جبريل عليه السلام لا يدع أحدا من الناس إلا صافحه.
وفي رواية: لا يدع مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلم عليه إلا مدمن الخمر وآكل لحم الخنزير والمتضمخ بالزعفران، وإن علامة مصافحته عليه السلام اقشعرار الجلد ورقة القلب ودمع العينين.
وروي في نزوله مع الملائكة عليهم السلام وعروجه معهم غير ذلك، وقد ذكر بعضا من ذلك
الإمام وغيره. ونسأل الله تعالى صحة الأخبار.
وذكر بعضهم أن
جبريل عليه السلام يقسم تلك الليلة ما ينزل من رحمة الله تعالى يستغرق أحياء المؤمنين فيقول: يا رب، بقي من الرحمة كثير. فما أصنع به؟ فيقول الله عز وجل: قسم على أموات أمة
محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. فيقسم حتى يستغرقهم فيقول: يا رب، بقي من الرحمة كثير. فما أصنع به؟ فيقول سبحانه وتعالى: قسمه على الكفار، فيقسمه عليهم، فمن أصابه منهم شيء من تلك الرحمة مات على الإيمان.
بإذن ربهم متعلق ب «تنزل» أو بمحذوف هو حال من فاعله؛ أي ملتبسين بإذن ربهم أي بأمره عز وجل، والتقييد بذلك لتعظيم أمر تنزلهم. وقيل: الإشارة إلى أنهم يرغبون في أهل الأرض من المؤمنين ويشتاقون إليهم فيستأذنون فيؤذن لهم، وفيه نوع ترغيب في الاجتهاد في الطاعة. واستشكل أمر هذه الرغبة مع كثرة المعاصي، وأجيب بأنهم غير واقفين على تفاصيلها أو لم يعتبروها مانعة من ذلك لأنهم يرون من أنواع الطاعات ما لا يرونه في السماء، أو ليسمعوا أنين العصاة التائبين.
ففي الحديث القدسي:
«لأنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين».
أو ليجتمعوا مع من بينه وبينهم مناسبة من الصديقين أداء لمراسم المحبة؛ فإن أرواح الصديقين المتجردة عن جلابيب الأبدان لم تزل تزور الملائكة عليهم السلام في مواضعهم بعروجها إليهم، فناسب أن تزورهم الملائكة عليهم السلام في زواياهم، وإن اقتضى ذلك الاجتماع مع غيرهم ممن ليسوا كذلك فإنه أمر تبعي.
ولأجل عين ألف عين تكرم.
من كل أمر أي: من أجل كل أمر تعلق به التقدير في تلك السنة إلى قابل، وأظهره سبحانه وتعالى لهم. قاله غير واحد، فمن بمعنى اللام التعليلية متعلقة ب «تنزل». قال
عصام الدين: فإن قلت: المقدرات لا تفعل في تلك الليلة بل في تمام السنة فلماذا تنزل الملائكة عليهم السلام فيها لأجل تلك الأمور؟ قلت: لعل تنزلهم لتعيين إنفاذ تلك الأمور لهم وتنزلهم لأجل كل أمر ليس على معنى تنزل كل واحد لأجل كل أمر، ولا تنزل كل واحد لأمر بل على معنى تنزل الجميع لأجل جميع الأمور حتى يكون في الكلام تقسيم العلل على المعلولات، انتهى.
وأقول: يمكن أن يكون تنزلهم لإعداد القوابل لقبول ما أمروا به، وأشار بما ذكره من التقسيم إلى أنه يجوز أن يكون نزول الواحد منهم لعدة أمور، وقولهم: من أجل كل أمر تعلق إلخ. قد تقدم ما فيه من البحث فتذكر.
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11970أبو حاتم: «من» بمعنى الباء أي تنزل بكل أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشر. وجعلت الباء عليه للسببية فيرجع المعنى إلى نحو ما مر. ومنهم من جعلها للملابسة والمراد بملابستهم له ملابستهم للأمر به فكأنه قيل: تنزل الملائكة وهم مأمورون بكل أمر يكون في السنة، وكونهم يتنزلون وهم كذلك لا يستدعي فعلهم جميع ما أمروا به في تلك الليلة، والظاهر على ما قالوا أن المراد بالملائكة المدبرات؛ إذ غيرهم لا تعلق له في الأمور التي تعلق بها التقدير ليتنزلوا لأجلها على المعنى السابق وهو خلاف ما تدل عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبرات فتدبر، وكأنه لذلك قيل إن:
من كل أمر متعلق بقوله
[ ص: 197 ] تعالى: