ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم خطاب للمنافقين، وقيل للمؤمنين، وضعف، مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم لا شيء آخر، فتكون الجملة مقررة لما قبلها من ثباتهم عند توبتهم، و(ما) استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده، وقيل: نافية، والباء سببية، وقيل: زائدة، أي: أي شيء يفعل الله سبحانه بسبب تعذيبكم، أيتشفى به من الغيظ؟! أم يدرك به الثأر؟! أم يستجلب نفعا؟! أو يستدفع به ضررا؟! كما هو شأن الملوك، وهو الغني المطلق المتعالي عن أمثال ذلك، وإنما هو أمر يقتضيه مرض كفركم ونفاقكم، فإذا احتميتم عن النفاق ونقيتم نفوسكم بشربة الإيمان والشكر في الدنيا برئتم وسلمتم، وإلا هلكتم هلاكا لا محيص عنه بالخلود في النار، وإنما قدم الشكر مع أن الظاهر تأخيره؛ لأنه لا يعتد به إلا بعد الإيمان لما أنه طريق موصل إليه في أول درجاته.
فقد ذكر العارف
أبو إسماعيل الأنصاري أن الشكر في الأصل اسم لمعرفة النعمة؛ لأنها السبيل إلى معرفة المنعم، وله ثلاث درجات؛ لأنه إذا نظر إلى النعمة كالرزق والخلق ينبعث منه شوق إلى معرفة المنعم، وهذه الحركة تسمى باليقظة، والشكر القلبي، والشكر المبهم؛ لأن منعمه لم يتضح له تعيينه، وإنما عرف منعما ما فهو منعم عليه، فإذا تيقظ لهذا وفق لنعمة أكبر منها، وهي المعرفة بأن المنعم عليه هو الصمد الواسع الرحمة، المثيب، المعاقب، فتتحرك جوارحه لتعظيمه، ويضيف إلى شكر الجنان شكر الأركان، ثم ينادي على ذلك الجميل باللسان ويقول:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
فالمذكور في الآية هو الشكر المبهم، وهو مقدم على الإيمان، فلا حاجة إلى ما زعمه الإمام من أن الكلام على التقديم والتأخير، أي: آمنتم وشكرتم. وأما القول بأن هذا السؤال إنما هو على تقدير أن تكون الواو للترتيب، وأما إذا لم تكن للترتيب فلا سؤال فمما لا ينبغي أن يتفوه به من له أدنى ذوق في علم الفصاحة والبلاغة؛ لأن الواو - وإن لم تفد الترتيب - لكن تقديم ما ليس مقدما لا يليق بالكلام الفصيح، فضلا عن المعجز، ولذا تراهم يذكرون لما يخالفه وجها ونكتة.
وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12099النيسابوري وجها آخر في التقديم، لكنه بناه على إفادة الواو للترتيب، فقال: لعل الوجه في ذلك أن الآية مسوقة في شأن المنافقين، ولا نزاع في إيمانهم ظاهرا، وإنما النزاع في بواطنهم وأفعالهم التي تصدر عنهم غير مطابقة للقول اللساني، فكان تقديم الشكر ها هنا أهم؛ لأنه عبارة عن صرف جميع ما أعطاه الله تعالى فيما خلق لأجله حتى تكون أفعاله وأقواله على نهج السداد، وسنن الاستقامة، انتهى.
ولا يخفى أنه لم يحمل الشكر في الآية على الشكر المبهم، ولا يخلو عن حسن.
[ ص: 180 ] وأوضح منه وأطيب ما حاك في صدري، ثم رأيت العلامة
الطيبي - عليه الرحمة - صرح به: إن الذي يقتضيه النظم الفائق أن هذا الخطاب مع المنافقين، وأن قوله سبحانه
ما يفعل الله بعذابكم متصل بقوله تعالى:
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلخ، وتنبيه لهم على أن الذي ورطهم في تلك الورطة كفرانهم نعم الله تعالى، وتهاونهم في شكر ما أوتوا، وتفويتهم على أنفسهم بنفاقهم البغية العظمى، وهو الإسعاد بصحبة أفضل الخلق صلى الله تعالى عليه وسلم والانخراط في زمرة الذين
مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله تعالى وأخلصوا دينهم له فأولئك حكمهم أن ينتظموا في سلك أولئك السعداء من المؤمنين بعدما كانوا مستأهلين الدرجات السفلى من النيران، ثم التفت تعريضا لهم أن ذلك العذاب كان منهم وبسبب تقاعدهم وكفرانهم تلك النعمة الرفيعة، وتفويتهم على أنفسهم تلك الفرصة السنية، وإلا فإن الله غني مطلق عن عذابهم، فضلا على أن يوقعهم في تلك الورطات.
فقوله - عز وجل -: (إن شكرتم) فذلكة لمعنى الرجوع عن الفساد في الأرض إلى الإصلاح فيها، ومن اللجأ إلى الخلق إلى الاعتصام بالله تعالى، ومن الرياء في الدين إلى الإخلاص فيه، فقوله عز من قائل: (وآمنتم) تفسير له، وتقرير لمعناه، أي: وآمنتم الإيمان الذي هو حائز لتلك الخلال الفواضل، جامع لتلك الخصال الكوامل، فتقديم الشكر على الإيمان - وحقه التأخير في الأصل - إعلام بأن الكلام فيه، وأن الآية السابقة مسوقة لبيان كفران نعمة الله تعالى العظمى، والكفر تابع، فإذا أخر الشكر أخل بهذه الأسرار واللطائف، ومن ثم ذيل سبحانه الآية على سبيل التعليل بقوله جل وعلا:
وكان الله شاكرا أي: مثيبا على الشكر
عليما بجميع الجزئيات والكليات، فلا يعزب عن علمه شيء، فيوصل الثواب كاملا إلى الشاكر، وإلى هذا ذهب
الإمام.
وقال غير واحد: الشاكر وكذا الشكور من أسمائه تعالى، هو الذي يجزي بيسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة، وعلى التقديرين يرجع إلى صفة فعلية، وقيل: معناه المثني على من تمسك بطاعته، فيرجع إلى صفة كلامية.