إلى الماء يسعى من يغص بلقمة إلى أين يسعى من يغص بماء
ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدة، ولهذا كان الغريق المسلم شهيدا، جعله الله تعالى نكالا لمن ادعى الربوبية، وقال: أنا ربكم الأعلى، وعلى قدر الذنب يكون العقاب، ويناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدعي، وتغييبه في قعر الماء، ولك أن تقول لما افتخر فرعون بالماء كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عنه : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي جعل الله تعالى هلاكه بالماء، وللتابع حظ وافر من المتبوع، وكان ذلك الغرق والإنجاء والإغراق يوم عاشوراء، والكلام فيه مشهور، وأنتم تنظرون جملة حالية، وفيها تجوز، أي وآباؤكم ينظرون، والمفعول محذوف، أي جميع ما مر، فإن أريد الأحكام فالنظر بمعنى العلم، وعليه رضي الله تعالى عنه، وإن نفس الأفعال من الغرق والإنجاء والإغراق فهو بمعنى المشاهدة، وعليه الجمهور، والحال على هذا من الفاعل، وهو معمول بجميع الأفعال السابقة على التنازع، وفائدته تقرير النعمة عليهم، كأنه قيل : وأنتم لا تشكون فيها، وجوز أن يقدر المفعول خاصا، أي غرقهم، وإطباق البحر عليهم، فالحال متعلق بالقريب، وهو أغرقنا، وفائدته تتميم النعمة، فإن هلاك العدو نعمة، ومشاهدته نعمة أخرى، وفي قصص ابن عباس أن بني إسرائيل حين عبروا البحر، وقفوا ينظرون إلى البحر، وجنود فرعون، ويتأملون كيف يفعلون، أو انفلاق البحر، فيكون الحال متعلقا بالأصل في الذكر، وهو (فرقنا)، وفائدته إحضار النعمة ليتعجبوا من عظم شأنها، ويتعرفوا إعجازها، أو ذلك الآل الغريق، فالحال من مفعول (أغرقنا) متعلق به، والفائدة تحقيق الإغراق وتثبيته، وقيل : المراد ينظر بعضكم بعضا، وأنتم سائرون في البحر، وذلك أنه نقل أن بعض قوم الكسائي موسى قالوا له : أين أصحابنا؟ فقال : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم، قالوا : لا نرضى حتى نراهم، فأوحى الله تعالى أن قل بعصاك هكذا، فقال بها على الحيطان فصار بها كوى فتراءوا وسمعوا كلام بعضهم بعضا، فالحال متعلق (بفرقنا)، وفائدته تتميم النعمة، فإن كونهم مستأنسين يرى بعضهم حال بعض نعمة أخرى، وبعض الناس يجعل الفعل على هذا الوجه منزلا منزلة اللازم، وليس بالبعيد، نعم البعيد جعل النظر هنا مجازا عن القرب، أي وأنتم بالقرب منهم، أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم، كقولهم: أنت مني بمرأى ومسمع ، أي قريب مني بحيث أراك وأسمعك، وكذا جعله بمعنى الاعتبار، أي وأنتم تعتبرون بمصرعهم، وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت عليهم، هذا وقد حكوا في كيفية خروج بني إسرائيل وتعنتهم، وهم في البحر، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده، وفي مقدار الطائفتين حكايات مطولة جدا لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها، والله تعالى أعلم بشأنها، والإشارة في الآية أن البحر هو الدنيا، وماءه شهواتها ولذاتها، وموسى هو القلب، وقومه صفات القلب، وفرعون هو النفس الأمارة، وقومه صفات النفس وهم أعداء موسى وقومه، يطلبونهم ليقتلوهم، وهم سائرون إلى الله تعالى، والعدو من خلفهم، وبحر الدنيا أمامهم، ولا بد لهم في السير إلى الله تعالى من عبوره، ولو يخوضونه بلا ضرب عصا لا إله إلا الله بيد موسى القلب، فإن له يدا بيضاء في هذا الشأن، لغرقوا كما غرق فرعون وقومه، ولو كانت هذه العصا في يد فرعون النفس لم ينفلق، فكما أن يد موسى القلب شرط في الانفلاق كذلك عصا الذكر شرط فيه، فإذا حصل الشرطان، وضرب موسى بعصا الذكر مرة بعد أخرى ينفلق بإذن الله بحر الدنيا بالنفي، وينشبك ماء الشهوات يمينا وشمالا، ويرسل الله تعالى ريح العناية وشمس الهداية على قعر ذلك البحر، فيصير يابسا من ماء الشهوات، فيخرج موسى وقومه بعناية التوحيد [ ص: 257 ] إلى ساحل النجاة، " وإن إلى ربك المنتهى " ويقال لفرعون وقومه إذا غرقوا وأدخلوا نارا : " ألا بعدا للقوم الظالمين "