صفحة جزء
يستفتونك أي: في الكلالة استغني عن ذكره لوروده في قوله تعالى: قل الله يفتيكم في الكلالة والجار متعلق بـ( يفتيكم ) وقال الكوفيون : بـ( يستفتونك ) وضعفه أبو البقاء بأنه لو كان كذلك لقال: ( يفتيكم فيها في الكلالة ) وقد مر تفسير الكلالة في مطلع السورة، والآية نزلت في جابر بن عبد الله ، كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وغيره.

[ ص: 44 ] وأخرج الشيخان وخلق كثير عنه قال: « دخل علي رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ ثم صب علي فعقلت، فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض » وهي آخر آية نزلت.

فقد أخرج الشيخان وغيرهما، عن البراء قال: «آخر سورة نزلت كاملة ( براءة ) وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء» والمراد من الآيات المتعلقة بالأحكام كما نص على ذلك المحققون، وسيأتي تحقيق ذلك - إن شاء الله تعالى - وتسمى آية الصيف.

أخرج مالك، ومسلم، عن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال: « ما سألت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدري، وقال: يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ».

إن امرؤ هلك استئناف مبين للفتيا، وارتفع ( امرؤ ) بفعل يفسره المذكور على المشهور، وقوله تعالى ليس له ولد صفة له، ولا يضر الفصل بالمفسر؛ لأنه تأكيد، وقيل: حال منه، واعترض بأنه نكرة، ومجيء الحال منها خلاف الظاهر، إذ المتبادر في الجمل الواقعة بعد النكرات أنها صفات، وقال الحلبي : يصح كونه حالا منه، و( هلك ) صفة له، وجعله أبو البقاء حالا من الضمير المستكن في ( هلك ) وقيل عليه: إن المفسر غير مقصود، حتى ادعى بعضهم أنه لا ضمير فيه؛ لأنه تفسير لمجرد الفعل بلا ضمير، وإن رد بقوله تعالى: قل لو أنتم تملكون .

وقال أبو حيان: الذي يقتضيه النظم أن ذلك ممتنع، وذلك لأن المسند إليه في الحقيقة إنما هو الاسم المعمول للفعل المحذوف، فهو الذي لا ينبغي أن يكون التقييد له، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب فصارت كالمؤكدة لما سبق، وإذا دار الاتباع والتقييد بين مؤكد ومؤكد فالوجه أن يكون للمؤكد بالفتح؛ إذ هو معتمد الإسناد الأصلي، ووافقه الحلبي، وقال السفاقسي: الأظهر أن هذا مرجح لا موجب.

والمراد من الولد - على ما اختاره البعض - الذكر؛ لأنه المتبادر؛ ولأن الأخت وإن ورثت مع البنت - عند غير ابن عباس ، رضي الله تعالى عنهما، والإمامية - لكنها لا ترث النصف بطريق الفرضية، وتعقبه بعض المحققين مختارا العموم بأنه تخصيص من غير مخصص، والتعليل بأن الابن يسقط الأخت دون البنت ليس بسديد؛ لأن الحكم تعيين النصف، وهذا ثابت عند عدم الابن والبنت غير ثابت عند وجود أحدهما، أما الابن فلأنه يسقط الأخت، وأما البنت فلأنها تصيرها عصبة، فلا يتعين لها فرض.

نعم، يكون نصيبها مع بنت واحدة النصف بحكم العصوبة لا الفرضية، فلا حاجة إلى تفسير الولد بالابن لا منطوقا ولا مفهوما.

وأيضا الكلام في الكلالة، وهو من لا يكون له ولد أصلا، وكذا ما لا يكون له والد، إلا أنه اقتصر على ذكر الولد؛ ثقة بظهور الأمر، والولد مشترك معنوي في سياق النفي فيعم، فلا بد للتخصيص من مخصص، وأنى به؟! فليفهم.

وقوله تعالى: وله أخت عطف على ( ليس له ولد ) ويحتمل الحالية، والمراد بالأخت الأخت من الأبوين الأم والأب؛ لأن الأخت من الأم فرضها السدس، وقد مر بيانه في صدر السورة الكريمة.

فلها نصف ما ترك أي: بالفرض، والباقي للعصبة، أو لها بالرد إن لم يكن له عصبة، والفاء واقعة في جواب الشرط، وهو أي المرء، المفروض يرثها أي: أخته المفروضة، إن فرض هلاكها مع بقائه، والجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وقد سدت - كما قال أبو البقاء - مسد جواب الشرط في قوله تعالى: إن لم يكن لها ولد ذكرا كان أو أنثى، فالمراد بإرثه لها إحراز جميع مالها إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية، [ ص: 45 ] لا إرثه لها في الجملة؛ فإنه يتحقق مع وجود بنتها، والآية - كما لم تدل على سقوط الأخوة بغير الولد - لم تدل على عدم سقوطهم به، وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب إذ صح عنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - « ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر » ولا ريب في أن الأب أولى من الأخ، وليس ما ذكر بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة.

فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك عطف على الشرطية الأولى، والضمير لمن يرث بالأخوة، وتثنيته محمولة على المعنى، وحكم ما فوق الاثنين كحكمها، واستشكل الإخبار عن ضمير التثنية بالاثنتين؛ لأن الخبر لا بد أن يفيد غير ما يفيده المبتدأ، ولهذا لا يصح ( سيد الجارية مالكها ) وضمير التثنية دال على الاثنينية فلا يفيد الإخبار عنه بما ذكر شيئا، وأجيب عن ذلك أن الاثنينية تدل على مجرد التعدد من غير تقييد بكبر أو صغر، أو غير ذلك من الأوصاف، فكأنه قيل: إنهما يستحقان ما ذكر بمجرد التعدد من غير اعتبار أمر آخر، وهذا مفيد، وإليه ذهب الأخفش ، ورد بأن ضمير التثنية يدل على ذلك أيضا فعاد الإشكال.

وروى مكي عنه أنه أجاب بأن ذلك حمل على معنى ( من يرث ) وأن الأصل والتقدير: إن كان من يرث بالأخوة اثنين، وإن كان من يرث ذكورا وإناثا فيما يأتي، وإنما قيل: ( كانتا ) و( كانوا ) لمطابقة الخبر كما قيل: ( من كانت أمك ) ورد بأنه غير صحيح، وليس نظير المثال؛ لأنه صرح فيه بـ( من ) وله لفظ ومعنى، فمن أنث راعى المعنى وهو الأم، ولم يؤنث لمراعاة الخبر، ومدلول الخبر فيه مخالف لمدلول الاسم بخلاف ما نحن فيه فإن مدلولهما واحد.

وذكر أبو حيان لتخريج الآية وجهين:

الأول أن ضمير ( كانتا ) لا يعود على الأختين، بل على الوارثين، وثم صفة محذوفة لـ( اثنتين ) والصفة مع الموصوف هو الخبر، والتقدير ( فإن كانتا ) أي الوارثتان ( اثنتين ) من الأخوات، فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيده الاسم، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز.

والثاني أن يكون الضمير عائدا على الأختين كما ذكروا، ويكون خبر كان محذوفا لدلالة المعنى عليه، وإن كان حذفه قليلا، ويكون ( اثنتين ) حالا مؤكدة، والتقدير: فإن كانتا أي الأختان له، أي: للمرء الهالك، ويدل على حذف له ( وله أخت ).

وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين أصله: وإن كانوا إخوة وأخوات، فغلب المذكر بقرينه ( رجالا ونساء ) الواقع بدلا، وقيل: فيه اكتفاء يبين الله لكم حكم الكلالة، أو أحكامه وشرائعه التي من جملتها حكمها، وإلى هذا ذهب أبو مسلم أن تضلوا أي: كراهة أن تضلوا في ذلك، وهو رأي البصريين ، وبه صرح المبرد .

وذهب الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين إلى تقدير ( اللام ) و( لا ) في طرفي ( أن ) أي: لئلا تضلوا، وقيل: ليس هناك حذف ولا تقدير، وإنما المنسبك مفعول ( يبين ) أي: يبين لكم ضلالكم، ورجح هذا بأنه من حسن الختام والالتفات إلى أول السورة وهو: يا أيها الناس اتقوا ربكم فإنه سبحانه أمرهم بالتقوى، وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية، ولما تم تفصيله قال - عز وجل - لهم: إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم، فإن الشر إذا عرف اجتنب، والخير إذا عرف ارتكب.

واعترض بأن المبين صريحا هو الحق، والضلال يعلم بالمقايسة، فكان الظاهر ( يبين لكم الحق ) إلا أن يقال: بيان الحق واضح، وبيان الضلال خفي فاحتيج إلى التنبيه عليه، وفيه تأمل.

وذكر الجلال السيوطي أن حسن الختام في هذه السورة أنها ختمت بآية الفرائض، وفيها أحكام [ ص: 46 ] الموت الذي هو آخر أمر كل حي، وهي أيضا آخر ما نزل من الأحكام والله بكل شيء من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم عليم مبالغ في العلم، فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم.

التالي السابق


الخدمات العلمية