هذا، ومن باب الإشارة في الآيات:
(
يا أيها الذين آمنوا ) بالإيمان العلمي (
أوفوا بالعقود ) أي: بعزائم التكليف، وقال
أبو الحسن الفارسي : أمر الله تعالى عباده بحفظ النيات في المعاملات، والرياضات في المحاسبات، والحراسة في الخطرات، والرعاية في المشاهدات، وقال بعضهم: ( أوفوا بالعقود ) عقد القلب بالمعرفة، وعقد اللسان بالثناء، وعقد الجوارح بالخضوع.
وقيل: أول عقد عقد على المرء عقد الإجابة له سبحانه بالربوبية وعدم المخالفة بالرجوع إلى ما سواه، والعقد الثاني عقد تحمل الأمانة وترك الخيانة.
(
أحلت لكم بهيمة الأنعام ) أي: أحل لكم جميع أنواع التمتعات والحظوظ بالنفوس السليمة، التي لا يغلب عليها السبعية والشره ( إلا ما يتلى عليكم ) من التمتعات المنافية للفضيلة والعدالة (
غير محلي الصيد وأنتم حرم ) أي: لا متمتعين بالحظوظ في حال تجردكم للسلوك وقصدكم كعبة الوصال، وتوجهكم إلى حرم صفات الجمال والجلال (
إن الله يحكم ما يريد ) فليرض السالك بحكمه؛ ليستريح، ويهدى إلى سبيل رشده.
(
يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ) من المقامات والأحوال التي يعلم بها السالك إلى حرم ربه سبحانه، من الصبر والتوكل والشكر ونحوها، أي: لا تخرجوا عن حكمها (
ولا الشهر الحرام ) وهو وقت الحج الحقيقي، وهو وقت السلوك إلى ملك الملوك، وإحلاله بالخروج عن حكمه والاشتغال بما ينافيه (
ولا الهدي ) وهو النفس المستعدة المعدة للقربان عند الوصول إلى الحضرة، وإحلالها باستعمالها بما يصرفها أو تكليفها بما سبب مللها ( ولا القلائد ) وهي ما قلدته النفس من الأعمال الشرعية التي لا يتم الوصول إلا بها، وإحلالها بالتطفيف بها وعدم إيقاعها على الوجه الكامل (
ولا آمين البيت الحرام ) وهم السالكون، وإحلالهم بتنفيرهم وشغلهم بما يصدهم أو يكسلهم (
يبتغون فضلا من ربهم ) بتجليات الأفعال (
ورضوانا ) بتجليات الصفات (
وإذا حللتم فاصطادوا ) أي: إذا رجعتم إلى البقاء بعد الفناء، فلا جناح عليكم في التمتع.
(
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ) أي: لا يكسبنكم بغض القوى النفسانية بسبب صدها إياكم عن السلوك (
أن تعتدوا ) عليها وتقهروها بالكلية، فتتعطل أو تضعف عن منافعها، أو لا يكسبنكم بغض قوم من أهاليكم أو أصدقائكم بسبب صدهم إياكم (
أن تعتدوا ) عليهم بمقتهم وإضرارهم وإرادة الشر لهم.
(
وتعاونوا على البر والتقوى ) بتدبير تلك القوى وسياستها، أو بمراعاة الأهل والأصدقاء والإحسان إليهم (
ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) فإن ذلك يقطعكم عن الوصول.
وعن سهل أن البر الإيمان، والتقوى السنة، والإثم الكفر، والعدوان البدعة.
وعن
الصادق - رضي الله تعالى عنه - البر
[ ص: 68 ] الإيمان، والتقوى الإخلاص، والإثم الكفر، والعدوان المعاصي.
وقيل: البر ما توافق عليه العلماء من غير خلاف، والتقوى مخالفة الهوى، والإثم طلب الرخص، والعدوان التخطي إلى الشبهات.
(
واتقوا الله ) في هذه الأمور (
إن الله شديد العقاب ) فيعاقبكم بما هو أعلم (
حرمت عليكم الميتة ) وهي خمود الشهوة بالكلية؛ فإنه رذيلة التفريط المنافية للعفة (
والدم ) وهو التمتع بهوى النفس (
ولحم الخنزير ) أي: وسائر وجوه التمتعات بالحرص والشره وقلة الغيرة (
وما أهل لغير الله به ) من الأعمال التي فعلت رياء وسمعة (
والمنخنقة ) وهي الأفعال الحسنة صورة مع كمون الهوى فيها (
والموقوذة ) وهي الأفعال التي أجبر عليها الهوى (
والمتردية ) وهي الأفعال المائلة إلى التفريط والنقصان (
والنطيحة ) وهي الأفعال التي تصدر خوف الفضيحة وزجر المحتسب مثلا (
وما أكل السبع ) وهي الأفعال التي من ملائمات القوة الغضبية من الأنفة والحمية النفسانية (
إلا ما ذكيتم ) من الأفعال الحسنة، التي تصدر بإرادة قلبية، لم يمازجها ما يشينها (
وما ذبح على النصب ) وهو ما يفعله أبناء العادات، لا لغرض عقلي أو شرعي (
وأن تستقسموا بالأزلام ) بأن تطلبوا السعادة والكمال بالحظوظ والطوالع، وتتركوا العمل وتقولوا: لو كان مقدرا لنا لعملنا، فإنه ربما كان القدر معلقا بالسعي (
ذلكم فسق ) خروج عن الدين الحق؛ لأن فيه الأمر والنهي والاتكال على المقدر بجعلمها عبثا (
اليوم ) وهو وقت حصول الكمال (
يئس الذين كفروا من دينكم ) بأن يصدوكم عن طريق الحق (
فلا تخشوهم ) فإنهم لا يستولون عليكم بعد (
واخشون ) لتنالوا ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر(
اليوم أكملت لكم دينكم ) ببيان ما بينت (
وأتممت عليكم نعمتي ) بذلك أو بالهداية إلي (
ورضيت لكم الإسلام ) أي الانقياد للانمحاء (
دينا فمن اضطر ) إلى تناول لذة (
في مخمصة ) وهي الهجيان الشديد للنفس (
غير متجانف لإثم ) غير منحرف لرذيلة (
فإن الله غفور رحيم ) فيستر ذلك، ويرحم بمدد التوفيق.
(
يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ) من الحقائق التي تحصل لكم بعقولكم وقلوبكم وأرواحكم (
وما علمتم من الجوارح ) وهي الحواس الظاهرة والباطنة، وسائر القوى والآلات البدنية (
مكلبين ) معلمين لها على اكتساب الفضائل (
تعلمونهن مما علمكم الله ) من علوم الأخلاق والشرائع (
فكلوا مما أمسكن عليكم ) مما يؤدي إلى الكمال (
واذكروا اسم الله عليه ) بأن تقصدوا أنه أحد أسباب الوصول إليه عز شأنه، لا أنه لذة نفسانية (
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) وهو مقام الفرق والجمع (
وطعامكم حل لهم ) فلا عليكم أن تطعموهم منه، بأن تضموا لأهل الفرق جمعا ولأهل الجمع فرقا (
والمحصنات من المؤمنات ) وهي النفوس المهذبة الكاملة (
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن ) أي: حقوقهن من الكمال اللائق بهن، وألحقتموهن بالمحصنات من المؤمنات (
محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ) بل قاصدين تكميلهن، واستيلاء الآثار النافعة منهن لا مجرد الصحبة، وإفاضة ماء المعارف من غير ثمرة (
ومن يكفر بالإيمان ) بأن ينكر الشرائع والحائق، ويمتنع من قبولها (
فقد حبط عمله ) بإنكاره الشرائع (
وهو في الآخرة من الخاسرين ) بإنكاره الحقائق، والظاهر عدم التوزيع، والله تعالى أعلم بمراده، وهو الموفق للصواب.