لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم لا غير
المسيح ، كما يقال: الكرم هو التقوى، وأن الله تعالى هو الدهر أي الجالب للحوادث لا غير الجالب، فالقصر هنا للمسند إليه على المسند، بخلاف قولك: زيد هو المنطلق، فإن معناه لا غير زيد، والقائلون لذلك - على ما هو المشهور - هم اليعقوبية المدعون بأن الله سبحانه قد يحل في بدن إنسان معين، أو في روحه.
وقيل: لم يصرح بهذا القول أحد من النصارى ، ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتا مع تصريحهم بالوحدة وقولهم: لا إله إلا واحد لزمهم أن الله سبحانه هو المسيح، فنسب إليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم وتفضيحا لمعتقدهم.
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب : فإن قيل: إن أحدا لم يقل: الله تعالى هو
المسيح ، وإن قالوا:
المسيح هو الله تعالى، وذلك أن عندهم أن
المسيح من لاهوت وناسوت، فيصح أن يقال:
المسيح هو اللاهوت وهو ناسوت، كما صح أن يقال: الإنسان
[ ص: 99 ] هو حيوان مع تركبه من العناصر، ولا يصح أن يقال: اللاهوت هو
المسيح كما لا يصح أن يقال: الحيوان هو الإنسان؟ قيل: إنهم قالوا هو
المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت، وهو ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب القرظي : «أنه لما رفع
عيسى عليه الصلاة والسلام اجتمع طائفة من علماء بني إسرائيل، فقالوا: ما تقولون في
عيسى عليه الصلاة والسلام؟ فقال أحدهم: أوتعلمون أحدا يحيي الموتى إلا الله تعالى؟ فقالوا: لا، فقال: أوتعلمون أحدا يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله تعالى؟ قالوا: لا، قالوا: فما الله تعالى إلا من هذا وصفه ، أي: حقيقة الإلهية فيه، وهذا كقولك: الكريم زيد، أي: حقيقة الكرم في زيد، وعلى هذا قولهم: ( إن الله هو المسيح ) انتهى.
وأنت تعلم أنه مع دعوى أن القائلين بالاتحاد يقولون بانحصار المعبود في
المسيح كما هو ظاهر النظم لا يرد شيء.
قل يا
محمد ؛ تبكيتا لهم، وإظهارا لبطلان قولهم الفاسد، وإلقاما لهم الحجر، وقد يقال: الخطاب لكل من له أهلية ذلك، والفاء في قوله تعالى:
فمن يملك من الله شيئا عاطفة على مقدر، أو جواب شرط محذوف، و( من ) استفهامية للإنكار والتوبيخ، والملك الضبط والحفظ التام عن حزم، والمراد هنا: فمن يمنع أو يستطيع، كما في قوله:
أصبحت لاأحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
و( من الله ) متعلق به على حذف مضاف، أي: ليس الأمر كذلك، أو إن كان كما تزعمون فمن يمنع من قدرته تعالى وإرادته شيئا
إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ومن حق من يكون إلها أن لا يتعلق به ولا بشأن من شئونه، بل بشيء من الموجودات قدرة غيره، فضلا عن أن يعجز عن دفع شيء منها عند تعلقها بهلاكه، فلما كان عجزه بينا لا ريب فيه ظهر كونه بمعزل عما تقولون فيه.
والمراد بالإهلاك الإماتة والإعدام مطلقا، لا عن سخط وغضب، وإظهار
المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه الألوهية حيث ذكرت معه الصفة في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتنصيص على أنه من تلك الحيثية بعينها داخل تحت قهره تعالى وملكوته سبحانه، وقيل: وصفه بذلك للتنبيه على أنه حادث، تعلقت به القدرة بلا شبهة؛ لأنه تولد من أم، وتخصيص الأم بالذكر مع اندراجها في عموم المعطوف لزيادة تأكيد عجز
المسيح ، ولعل نظمها في سلك من فرض إهلاكهم مع تحقق هلاكها قبل لتأكيد التبكيت، وزيادة تقرير مضمون الكلام بجعل حالها أنموذجا لحال بقية من فرض إهلاكه، وتعميم إرادة الإهلاك مع حصول الغرض بقصرها على
عيسى - عليه الصلاة والسلام - لتهويل الخطب، وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره وملكوته تعالى، لا يقدر على دفع ما أريد به فضلا عما أريد بغيره، وللإيذان بأن
المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك، كما أنه أسوة لهم في العجز وعدم استحقاق الألوهية، قاله المولى
أبو السعود .
و( جميعا ) حال من المتعاطفات، وجوز أن يكون حالا من ( من ) فقط لعمومها.
وقوله تعالى:
ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما أي: ما بين طرفي العالم الجسماني، فيتناول ما في السماوات من الملائكة وغيرها، وما في أعماق الأرض والبحار من المخلوقات، قيل: تنصيص على كون الكل تحت قهره تعالى وملكوته إثر الإشارة إلى كون البعض كذلك، أي: له تعالى وحده ملك جميع الموجودات، والتصرف المطلق فيها إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة، لا لأحد سواه استقلالا ولا اشتراكا، فهو تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى إثر بيان انتفائها عما سواه، وقيل: دليل آخر على نفي ألوهية
عيسى - عليه الصلاة والسلام - لأنه لو كان إلها كان
[ ص: 100 ] له ملك السماوات والأرض وما بينهما، وقيل: دليل على نفي كونه - عليه الصلاة والسلام - ابنا ببيان أنه مملوك لدخوله تحت العموم، ومن المعلوم أن المملوكية تنافي البنوة.
وقوله تعالى:
يخلق ما يشاء جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبه في أمر
المسيح - عليه السلام - لولادته من غير أب، وخلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، و( ما ) نكرة موصوفة محلها النصب على المصدرية، أي: يخلق أي خلق يشاؤه، فتارة يخلق من غير أصل، كخلق السماوات والأرض مثلا، وأخرى من أصل كخلق بعض ما بينهما، وذلك متنوع أيضا، فطورا ينشئ من أصل ليس من جنسه كخلق آدم وكثير من الحيوانات، وتارة من أصل يجانسه، إما من ذكر وحده كخلق حواء، أو من أنثى وحدها كخلق
عيسى - عليه الصلاة والسلام - أو منهما كخلق سائر الناس، ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات، وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر، كخلق الطير على يد
عيسى - عليه السلام - معجزة له، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، فينبغي أن ينسب كل ذلك إليه تعالى، لا من أجري على يده، قاله غير واحد.
وقيل: إن الجملة جيء بها ها هنا مبينة لما هو المراد من قوله تعالى:
ولله ملك السماوات والأرض إلخ، بحسب اقتضاء المقام، و( ما ) نصب على المصدرية أيضا، وقيل: يجوز أن تكون موصولة، ومحلها النصب على المفعولية، أي: يخلق الذي يشاء أن يخلقه، والجملة مسوقة لبيان أن قدرته تعالى أوسع من عالم الوجود.
وعلى كل تقدير فقوله سبحانه:
والله على كل شيء قدير تذييل مقرر لمضمون ما قبله، وإظهار الاسم الجليل لما مر من التعليل، وتقوية استقلال الجملة.