صفحة جزء
فطوعت له نفسه قتل أخيه فسهلته له ووسعته، من طاع له المرتع إذا اتسع، وترتيب التطويع على ما قبله من مقالات هابيل مع تحققه قبل، كما يفصح عنه قوله: ( لأقتلنك ) لما أن بقاء الفعل بعد تقرر ما يزيله - وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر - لكنه في الحقيقة أمر حادث، وصنع جديد، أو لأن هذه المرتبة من التطويع لم تكن حاصلة قبل ذلك بناء على تردده في قدرته على القتل لما أن أخاه كان أقوى منه، وأنها حصلت بعد وقوفه على استسلامه وعدم معارضته له، والتصريح بأخوته لكمال تقبيح ما سولته نفسه، وقرأ الحسن ( فطاوعت ) وفيها وجهان:

الأول أن ( فاعل ) بمعنى ( فعل ) كما ذكره سيبويه وغيره، وهو أوفق بالقراءة المتواترة.

والثاني أن المفاعلة مجازية بجعل القتل يدعو النفس إلى الإقدام عليه وجعلت النفس تأباه، فكل من القتل والنفس كأنه يريد من صاحبه أن يطيعه إلى أن غلب القتل النفس ( فطاوعته ) و( له ) للتأكيد والتبيين كما في قوله تعالى: ألم نشرح لك صدرك .

والقول بأنه للاحتراز عن أن يكون ( طوعت ) لغيره أن يقتله ليس بشيء.

فقتله أخرج ابن جرير ، عن مجاهد ، وابن جريج : «أن قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل، فتمثل له إبليس اللعين في هيئة طير، فأخذ طيرا فوضع رأسه بين حجرين فشدخه، فعلمه القتل، فقتله كذلك وهو مستسلم».

وأخرج عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - «أن قابيل طلب أخاه ليقتله فراغ منه في رءوس الجبال، فأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنما له وهو نائم، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات، فتركه بالعراء، ولا يعلم كيف يدفن، إلى أن بعث الله تعالى الغراب، وكان لهابيل لما قتل عشرون سنة».

واختلف في موضع قتله، فعن عمرو الشعباني ، عن كعب الأحبار أنه قتل على [ ص: 115 ] جبل دير المران ، وفي رواية عنه: أنه قتل على جبل قاسيون ، وقيل: عند عقبة حراء ، وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.

وأخرج نعيم بن حماد ، عن عبد الرحمن بن فضالة ، أنه لما قتل قابيل هابيل مسخ الله تعالى عقله، وخلع فؤاده، فلم يزل تائها حتى مات.

وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض، فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلا، قال: بل قتلته، ولذلك اسود جسدك.

وأخرج ابن عساكر ، وابن جرير ، عن سالم بن أبي الجعد قال: «إن آدم - عليه السلام - لما قتل أحد بنيه الآخر مكث مائة عام لا يضحك حزنا عليه، فأتي على رأس المائة، فقيل له: حياك الله تعالى وبياك، وبشر بغلام فعند ذلك ضحك».

وذكر محيي السنة أنه - عليه السلام - ولد له بعد قتل ولده بخمسين سنة شيت - عليه السلام - وتفسيره ( هبة الله ) يعني أنه خلف من هابيل ، وعلمه الله تعالى ساعات الليل والنهار، وعبادة الخلق من كل ساعة منها، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وصار وصي آدم، وولي عهده.

وأخرج ابن جرير ، عن علي - كرم الله تعالى وجهه - قال: «لما قتل ابن آدم - عليه السلام - أخاه بكى آدم - عليه السلام - ورثاه بشعر».

وأخرج نحو ذلك الخطيب ، وابن عساكر ، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وهو مشهور.

وروي عن ميمون بن مهران ، عن الحبر - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: «من قال: إن آدم - عليه السلام - قال شعرا فقد كذب، إن محمدا - صلى الله تعالى عليه وسلم - والأنبياء كلهم - عليهم الصلاة والسلام - في النهي عن الشعر سواء» ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم بالسرياني، فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية والسريانية، فنظر فيه فقدم وأخر وجعله شعرا عربيا، وذكر بعض علماء العربية أن في ذلك الشعر لحنا أو إقواء أو ارتكاب ضرورة، والأولى عدم نسبته إلى يعرب أيضا؛ لما فيه من الركاكة الظاهرة.

فأصبح من الخاسرين دنيا وآخرة.

أخرج الشيخان وغيرهما، عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: « لا تقتل نفسا ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل ».

وأخرج ابن جرير ، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: «إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب، عليه شطر عذابهم».

وورد أنه أحد الأشقياء، وهذا ونحوه صريح في أن الرجل مات كافرا.

وأصرح من ذلك ما روي أنه لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن ، فأتاه إبليس - عليهما اللعنة - فقال: إنما أكلت النار قربان هابيل ؛ لأنه كان يخدمها ويعبدها، فإن عبدتها أيضا حصل مقصودك، فبنى بيت نار فعبدها، فهو أول من عبد النار، والظاهر أن عليه أيضا وزر من يعبد النار، بل لا يبعد أن يكون عليه وزر من يعبد غير الله تعالى إلى يوم القيامة.

واستدل بعضهم بقوله سبحانه: ( فأصبح ) على أن القتل وقع ليلا، وليس بشيء، فإن من عادة العرب أن يقولوا: أصبح فلان خاسر الصفقة إذا فعل أمرا ثمرته الخسران، ويعنون بذلك الحصول مع قطع النظر عن وقت دون وقت، وإنما لم يقل سبحانه: ( فأصبح خاسرا ) للمبالغة، وإن لم يكن حينئذ خاسر سواه.

التالي السابق


الخدمات العلمية