وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عطف على الكتاب، كأنه قيل: وأنزلنا إليك الكتاب، وقولنا: ( احكم ) أي الأمر بالحكم لا الحكم؛ لأن المنزل الأمر بالحكم لا الحكم، ولئلا يلزم إبطال الطلب بالكلية، ولك أن تقدر الأمر بالحكم من أول الأمر من دون إضمار القول، كما حققه في الكشف، وجوز أن يكون عطفا على الحق، وفي المحل وجهان: الجر والنصب، على الخلاف المشهور، وقيل: يجوز أن يكون الكلام جملة اسمية بتقدير مبتدأ، أي وأمرنا أن احكم، وزعم بعضهم أن ( أن ) هذه تفسيرية، ووجهه
nindex.php?page=showalam&ids=14803أبو البقاء بأن يكون التقدير: وأمرناك، ثم فسر هذا الأمر بالحكم، ومنع
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان من تصحيحه بذلك بأنه لم يحفظ من لسانهم حذف المفسر بـ( أن ) والأمر كما ذكر.
وقال
الطيبي : ولو جعل هذا الكلام عطفا على ( فاحكم )
[ ص: 155 ] من حيث المعنى ليكون التكرير لإناطة قوله سبحانه:
واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك كان أحسن، ورد بأن ( أن ) هي المانعة من ذلك العطف، وأمر الإناطة ملتزم على كل حال.
وقال بعضهم: إنما كرر الأمر بالحكم؛ لأن الاحتكام إليه - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان مرتين: مرة في زنا المحصن، ومرة في قتيل كان بينهم، فجاء كل أمر في أمر، وحكي ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=13980الجبائي ،
والقاضي أبي يعلى ، ونون ( أن ) فيها الضم والكسر، والمنسبك من ( أن يفتنوك ) بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال، أي: واحذر فتنتهم لك وأن يصرفوك عن بعض ما أنزل الله تعالى إليك، ولو كان أقل قليل، بتصوير الباطل بصورة الحق.
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16327ابن زيد : بالكذب على التوراة في أن ذلك الحكم ليس فيها، وجوز أن يكون مفعولا من أجله، أي: احذرهم مخافة أن يفتنوك، وإعادة ( ما أنزل الله ) تعالى ( إليك ) لتأكيد التحذير بتهويل الخطب، ولعل هذا لقطع أطماعهم، قاتلهم الله تعالى.
أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم ،
nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي في الدلائل، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -
أن أحبار اليهود قالوا: «اذهبوا بنا إلى محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - لعلنا نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد ، قد عرفت أنا أحبار اليهود ، وأنا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود كلهم، وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك ونصدقك فأبى ذلك رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم – فنزلت». فإن تولوا أي: أعرضوا عن قبول الحكم بما أنزل الله تعالى إليك، وأرادوا غيره
فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وهو ذنب التولي والإعراض، فهو بعض مخصوص، والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن لهم ذنوبا كثيرة، وهذا - مع كمال عظمه - واحد من جملتها، وفي هذا الإبهام تعظيم للتولي، كما في قوله:
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
يريد بالبعض نفسه، أي نفسا كبيرة، ونفسا أي نفس، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13980الجبائي : ذكر البعض وأريد الكل، كما يذكر العموم ويراد به الخصوص، وقيل: المراد بعض مبهم؛ تغليظا للعقاب، كأنه أشير إلى أنه يكفي أن يؤخذوا ببعض ذنوبهم أي بعض كان، ويهلكوا ويدمر عليهم بذلك.
وزعم بعضهم أنه لا يصح إرادة الكل؛ لأن المراد بهذه الإصابة عقوبة الدنيا، وهي تختص ببعض الذنوب دون بعض، والذي يعم إنما هو عذاب الآخرة، وهذه الإصابة - على ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن - إجلاء
بني النضير، وقيل: قتل
بني قريظة، وقيل: هي أعم من ذلك، وما عرى
بني قينقاع، وأهل
خيبر وفدك، ولعله الأولى.
وإن كثيرا من الناس لفاسقون أي متمردون في الكفر، مصرون عليه، خارجون من الحدود المعهودة، وهو اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، وفيه من التسلية للنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم – ما لا يخفى، وقيل: إنه عطف على قوله تعالى:
وكتبنا عليهم فيها يعني كتبنا حكم القصاص في التوراة، وقررناه في الإنجيل، وأنزلنا عليك الكتاب مصدقا لما فيهما ( وإن كثيرا من الناس لفاسقون ) من الأحكام الإلهية المقررة في الأديان، ولا يخفى بعده، والمراد من الناس العموم، وقيل: اليهود .