هذا ومن باب الإشارة في الآيات
يا أيها الذين آمنوا إيمانا علميا
لا تحرموا بتقصيركم في السلوك
طيبات ما أحل الله لكم من مكاشفات الأحوال وتجليات الصفات
ولا تعتدوا بظهور النفس بصفاتها
وكلوا مما رزقكم الله أي اجعلوا ما من الله تعالى به عليكم من علوم التجليات ومواهب الأحوال والمقامات غذاء قلوبكم
حلالا طيبا واتقوا الله في حصول ذلك لكم بأن تردوها منه وله، وجعل غير واحد هذا خطابا للواصلين من أرباب السلوك حيث أرادوا الرجوع إلى أهل البدايات من المجاهدات فنهوا عن ذلك وأمروا بأكل الحلال الطيب وفسروا الحلال بما وصل إلى المعارف من خزائن الغيب بلا كلفة، والطيب ما يقوي القلب في شوق الله تعالى وذكر جلاله، وقيل : الحلال الطيب ما يأكل على شهود وإلا فعلى ذكر، فإن الأكل على الغفلة حرام في شرع السلوك، وقال آخرون : الحلال الطيب هو الذي يراه العارف في خزانة القدر فيأخذه
[ ص: 34 ] منها بوصف الرضا والتسليم، والحرام ما قدر لغيره وهو يجتهد في طلبه لنفسه
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم وهو الحلف لملالة النفس وكلالة القوى وغلبة سلطان الهوى وعدوا من اللغو في اليمين الأقسام على الله تعالى بجماله وجلاله سبحانه عند غلبة الشوق ووجدان الذوق أن يرزقه شيئا من إقباله عز وجل ووصاله فإن ذلك (لغو) في شريعة الرضا ومذهب التسليم والذي يقتضيه ذلك ما أشير إليه بقوله : أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لما يريد لكن لا يؤاخذ الله تعالى عليه الحالف لعلمه بضعف حاله وعدوا من ذلك أيضا ما يجري على لسان السالكين في غلبة الوجد من تجديد العهد وتأكيد العقد كقول بعضهم : وحقك لا نظرت إلى سواكا بعين مودة حتى أراكا فإن ذلك ينافي التوحيد، وهل في الدار ديار كلا بل هو الله الواحد القهار، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان وذلك إذا عزمتم على الهجران وتعرضتم للخذلان عن صميم الفؤاد
فكفارته إطعام عشرة مساكين وهي على ما قال البعض الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة
من أوسط ما تطعمون أهليكم وهم القلب والسر والروح الخفي وطعامهم الشوق والمحبة والصدق والإخلاص والتفويض والتسليم والرضا والأنس والهيبة والشهود والكشوف والأوسط الذكر والفكر والشوق والتوكل والتعبد والخوف والرجاء وإطعام الحواس ذلك أن يشغلها به
أو كسوتهم لباس التقوى
أو تحرير رقبة وهي رقبة النفس فيحررها من عبودية الحرص والهوى
فمن لم يجد ولم يستطع
فصيام ثلاثة أيام فيمسك في اليوم الأول عما عزم عليه، وفي اليوم الثاني عما لا يعنيه، وفي اليوم الثالث عن العودة إليه وقيل كنى سبحانه بصيام ثلاثة أيام عن التوبة والاستقامة عليها ما دامت الدنيا فقد قيل : الدنيا ثلاثة أيام يوم مضى ويوم أنت فيه ويوم لا تدري ما الله سبحانه قاض فيه،
وأطيعوا الله بالفناء فيه
وأطيعوا الرسول بالبقاء بعد الفناء
واحذروا ظهور ذلك بالنظر إلى نفوسكم
فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ ولم يقصر فيه فالقصور منكم
ليس على الذين آمنوا بالتقليد
وعملوا الصالحات الأعمال البدنية الشرعية
جناح فيما طعموا من المباحات
إذا ما اتقوا شرك الأنانية
وآمنوا بالهوية
ثم اتقوا هذا الشرك وهو الفناء
وأحسنوا بالبقاء به جل شأنه قاله النيسابوري
وقال غيره : ليس على الذين آمنوا الإيمان العيني بتوحيد الأفعال وعملوا بمقتضى إيمانهم أعمالا تخرجهم عن حجب الأفعال وتصلحهم لرؤية أفعال الحق جناح وضيق فيما تمتعوا به من أنواع الحظوظ إذا ما اجتنبوا بقايا أفعالهم واتخذوا الله تعالى وقاية في صدور الأفعال منهم وآمنوا بتوحيد الصفات وعملوا ما يخرجهم عن حجبها ويصلحهم لمشاهدة الصفات الإلهية بالمحو فيها ثم اتقوا بقايا صفاتهم واتخذوا الله تعالى وقاية في ظهور صفاته عليهم وآمنوا بتوحيد الذات ثم اتقوا بقية ذواتهم واتخذوا الله تعالى وقاية في وجودهم بالفناء المحض والاستهلاك في عين الذات وأحسنوا بشهود التفصيل في عين الجمع والاستقامة في البقاء بعد الفناء
والله يحب المحسنين الباقين في فنائهم أو المشاهدين للوحدة في عين الكثرة المراعين لحقوق التفاصيل في عين الجمع بالوجود الحقاني
يا أيها الذين آمنوا بالغيب
ليبلونكم في أثناء السير والإحرام
[ ص: 35 ] لزيارة كعبة الوصول بشيء من الصيد أي الحظوظ والمقاصد النفسانية
تناله أيديكم ورماحكم أي يتيسر لكم ويتهيأ ما يتوصل به إليه
وقيل : ما تناله الأيدي اللذات البدنية وما تناله الرماح اللذات الخيالية
ليعلم الله العلم الذي ترتب عليه الجزاء
من يخافه بالغيب أي في حال الغيبة ولا يكون ذلك إلا للمؤمنين بالغيب لتعلقه بالعقاب الذي هو من باب الأفعال، وأما في الحضور فالخشية والهيبة دون الخوف والأولى بتجلي صفات الربوبية والعظمة والثانية بتجلي الذات فالخوف كما قيل من صفات النفس، والخشية من صفات القلب والهيبة من صفات الروح
فمن اعتدى بعد ذلك بتناول شيء من الحظوظ
فله عذاب أليم وهو عذاب الاحتجاب
يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم أي في حال الإحرام الحقيقي
ومن قتله منكم متعمدا بأن ارتكب شيئا من الحظوظ النفسانية قصدا
فجزاء مثل ما قتل بأن يقهر تلك القوة التي ارتكب بها من قوى النفس البهيمية بأمر يماثل ذلك الحظ
يحكم به ذوا عدل منكم وهما القوتان النظرية والعملية
هديا بالغ الكعبة الحقيقية وذلك بإفنائها في الله عز وجل
أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما أي أو بستر تلك القوة بصدقة أو صيام
أحل لكم صيد البحر وهو ما في العالم الروحاني من المعارف
وطعامه وهو العلم النافع من المعاملات والأخلاق
متاعا أي تمتيعا
لكم أيها السالكون بطريق الحق
وللسيارة المسافرين سفر الآخرة
وحرم عليكم صيد البر وهو في العالم الجسماني من المحسوسات والحظوظ النفسانية
واتقوا الله في سيركم
واعلموا أنكم إليه تحشرون بالفناء فاجتهدوا في السلوك ولا تقفوا مع الموانع وهو الله تعالى الميسر للرشاد وإليه المرجع والمعاد