(ومن باب الإشارة في الآيات)
جعل الله الكعبة البيت الحرام هي عندهم حضرة الجمع المحرمة على الأغيار، وقيل : قلب المؤمن، وقيل : الكعبة المخصوصة لا باعتبار أنها جدران أربعة وسقف بل باعتبار أنها مظهر جلال الله تعالى، وقد ذكروا أنه سبحانه يتجلى منها لعيون العارفين كما يشير إليه قوله عز شأنه على ما في التوراة (جاء الله تعالى من سينا فاستعلن بساعير وظهر من فاران
قياما للناس من موتهم الحقيقي لما يحصل لهم بواسطة ذلك،
والشهر الحرام وهو زمن الوصول أو مراعاة القلب أو الفوز بذلك التجلي الذي يحرم فيه ظهور صفات النفس أو الالتفات إلى مقتضيات القوى الطبيعية أو نحو ذلك
والهدي وهي النفس المذبوحة بفناء حضرة الجمع أو الواردات الإلهية التي ترد القلب أو ما يحصل للعبد من المنن عند ذلك التجلي
والقلائد وهي النفس الشريفة المنقادة أو هي نوع مما يحصل للعبد من قبل مولاه يقوده قسرا إلى ترك السوي
ذلك لتعلموا بما يحصل لكم
أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم أي يعلم حقائق الأشياء في عالمي الغيب والشهادة، وعلمه محيط بكل شيء
قل لا يستوي الخبيث من النفوس والأعمال والأخلاق والأموال
والطيب من ذلك
ولو أعجبك كثرة الخبيث بسبب ملاءمته للنفس فإن الأول موجب للقربة دون الثاني
يا أيها الذين آمنوا الإيمان البرهاني
لا تسألوا من أرباب الإيمان العياني
عن أشياء غيبية وحقائق لا تعلم إلا بالكشف
إن تبد لكم تسؤكم تهلككم لقصوركم عن معرفتها فيكون ذلك سببا إنكاركم والله سبحانه غيور، وإنه ليغضب لأوليائه كما يغضب الليث للحرب، وفي هذا كما قيل تحذير لأهل البداية عن كثرة سؤالهم من الكاملين عن أسرار الغيب وإرشاد لهم إلى الصحبة مع التسليم،
وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن الجامع للظاهر والباطن المتضمن لما سئلتم عنه
تبد لكم بواسطته
ما جعل الله من بحيرة وهي النفس التي شقت أذنها لسماع المخالفات،
ولا سائبة وهي النفس المطلقة العنان السارحة في رياض الشهوات
ولا وصيلة وهي النفس التي وصلت حبال آمالها بعضا ببعض فسوفت التوبة والاستعداد للآخرة،
ولا حام وهو من اشتغل حينا بالطاعة ولم يفتح له باب الوصول فوسوس إليه الشيطان
[ ص: 74 ] وقال : يكفيك ما فعلت، وليس وراء ما أنت فيه شيء فأرح نفسك فحمى نفسه عن تحمل مشاق المجاهدات
ونقل
nindex.php?page=showalam&ids=12099النيسابوري عن الشيخ
نجم الدين المعروف بداية أن البحيرة إشارة إلى الحيدرية والقنلدرية يثقبون آذانهم ويجعلون فيها حلق الحديد ويتركون الشريعة، والسائبة إشارة إلى الذين يضربون في الأرض خالعين العذر بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة، والوصيلة إشارة إلى أهل الإباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المواخاة والاتحاد ويرفضون صحبة الأقارب لأجل العصبية والعناد، والحام إشارة إلى المغرور بالله عز وجل يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفة الشريعة،
وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله من الأحكام
وإلى الرسول لمتابعته
قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا من الأفعال التي عاشوا بها وماتوا عليها
أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الشريعة والطريقة
ولا يهتدون إلى الحقيقة
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم فاشتغلوا بتزكيتها
لا يضركم من ضل عما أنتم فيه فأنكر عليكم
إذا اهتديتم وزكيتم أنفسكم، وإنما ضرر ذلك على نفسه
وقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم الآيتين لم يظهر للعبد فيه شيء يصلح للتحرير، وقد ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12099النيسابوري في تطبيقه على ما في الأنفس ما رأيت الترك له أنفس
يوم يجمع الله الرسل ، وهو يوم القيامة الكبرى
فيقول لهم
ماذا أجبتم حين دعوتم الخلق
قالوا لا علم لنا بذلك
إنك أنت علام الغيوب فتعلم جواب ما سئلنا، وهذا على ما قيل عند تراكم سطوات الجلال وظهور رداء الكبرياء وإزار العظمة، ولهذا بهتوا وتاهوا وتحيروا وتلاشوا، ولله سبحانه تجليات على أهل قربه وذوي حبه فيفنيهم تارة بالجلال ويبقيهم ساعة بالجمال، ويخاطبهم مرة باللطف ويعاملهم أخرى بالقهر، وكل ما فعل المحبوب محبوب
وقال بعض أهل التأويل : يجمع الله تعالى الرسل في عين الجمع المطلق أو عين جمع الذات فيسألهم هل اطلعتم على مراتب الخلق في كمالاتهم حين دعوتموهم إلي فينفوا العلم عن أنفسهم ويثبتوه لله تعالى لاقتضاء مقام الفناء ذلك،
إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر للأحباب والمريدين
نعمتي عليك وعلى والدتك لتزداد رغبتهم في واشكر ذلك لأزيدك مما عندي فخزائني مملوءة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
إذ أيدتك بروح القدس وهو الروح الذي أشرق من صبح الأزل وهي روحه الطاهرة، وقيل : المراد أيدتك بجبرائيل حيث عرفك رسوم العبودية
تكلم الناس في المهد أي مهد البدن أو في المهد المعلوم، والمعنى نطقت لهم صغيرا بتنزيه الله تعالى وإقرارك له بالعبودية
وكهلا أي في حال كبرك، والمراد أنك لم يختلف حالك صغرا وكبرا بل استمر تنزيهك لربك ولم ترجع القهقرى
وإذ علمتك الكتاب وهو كتاب الحقائق والمعارف
والحكمة وهي حكمة السلوك في الله عز وجل بتحصيل الأخلاق والأحوال والمقامات والتجريد والتفريد
والتوراة أي العلوم الظاهرة والأحكام المتعلقة بالأفعال وأحوال النفس وصفاتها
والإنجيل العلوم الباطنة ومنها علم تجليات الصفات والأحكام المتعلقة بأحوال القلب وصفاته
وإذ تخلق بالتربية أو بالتصوير
من الطين وهو الاستعداد المحض أو الطين المعلوم
كهيئة الطير أي كصورة طير القلب الطائر إلى حضرة القدس أو الطير المشهور
فتنفخ فيها من الروح الظاهرة فيك
فيكون طيرا نفسا مجردة طائرة بجناح الصفاء والعشق أو طيرا حقيقة
بإذني حيث صرت مظهرا لي
وتبرئ الأكمه أي المحجوب
[ ص: 75 ] عن نور الحق
والأبرص أي الذي أفسد قلبه حب الدنيا وغلبة الهوى
بإذني وإذ تخرج الموتى بداء الجهل من قبور الطبيعة
بإذني وإذ كففت بني إسرائيل وهي القوى النفسانية أو المحجوبين عن نور تجليات الصفات
عنك فلم ينقصك كيدهم شيئا
إذ جئتهم بالبينات وهي الحجج الواضحة أو القوى الروحانية الغالبة
وإذ أوحيت بطريق الإلهام
إلى الحواريين وهم الذين طهروا أنفسهم بماء العلم النافع ونقوا ثياب قلوبهم عن لوث الطبائع
أن آمنوا بي إيمانا حقيقيا بتوحيد الصفات
وبرسولي برعاية حقوق تجلياتها على التفصيل
وذكر بعض السادة أن الوحي يكون خاصا ويكون عاما، فالخاص ما كان بغير واسطة والعام ما كان بالواسطة من نحو الملك والروح والقلب والعقل والسر وحركة الفطرة وللأولياء نصيب من هذا النوع. والوحي الخاص مراتب وحي الفعل ووحي الذات. فوحي الذات يكون في مقام التوحيد عند رؤية العظمة والكبرياء ووحي الفعل يكون مقام العشق والمحبة وهناك منازل الأنس والانبساط
إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أي المربي لك والمفيض عليك ما كملك
أن ينزل علينا مائدة أي شريعة مشتملة على أنواع العلوم والحكم والمعارف والأحكام
من السماء أي من جهة سماء الأرواح
قال اتقوا الله أي اجعلوه سبحانه وقاية لكم فيما يصدر عنكم من الأفعال والأخلاق
إن كنتم مؤمنين ولا تسألوا شريعة مجددة
قالوا نريد أن نأكل منها بأن نعمل بها
وتطمئن قلوبنا فإن العلم غذاء
ونعلم أن قد صدقتنا في الأخبار عن ربك وعن نفسك
ونكون عليها من الشاهدين فنعلم بها الغائبين وندعوهم إليها
قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بها منكم ويحتجب عن ذلك الدين
بعد أي بعد الإنزال
فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وذلك بالحجاب عني لوجود الاستعداد ووضوح الطريق وسطوع الحجة، والعذاب مع العلم أشد من العذاب مع الجهل
، وقوله تعالى
وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس إلخ كلام الشيخ الأكبر قدس سره. وكلام الشيخ
عبد الكريم الجيلي في شهير منتشر على ألسنة المخلصين والمنكرين فيما بيننا. والله تعالى أعلم بمراده نسأل الله تعالى أن ينزل علينا موائد كرمه ولا يقطع عنا عوائد نعمه ويلطف بنا في مبدإ وختام بحرمة نبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام