صفحة جزء
هو الذي خلقكم من طين استئناف مسوق لبيان كفرهم بالبعث، والخطاب وإن صح كونه عاما لكنه هنا خاص بـ (الذين كفروا) كما يدل عليه الخطاب الآتي ففيه التفات، والنكتة فيه زيادة التشنيع والتوبيخ وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر أدلة صحة البعث مع أن ما تقدم من أظهر أدلته لما أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة، ومعنى خلق المخاطبين من طين أنه ابتداء خلقهم منه فإنه المادة الأولى لما أنه أصل آدم عليه الصلاة والسلام، وهو أصل سائر البشر، ولم ينسب سبحانه الخلق إليه عليه الصلاة والسلام مع أنه المخلوق منه حقيقية، وكفاية ذلك في الغرض الذي سيق له الكلام توضيحا لمنهاج القياس، ومبالغة في إزاحة الشبهة والالتباس، وقيل في توجيه خلقهم منه : إن الإنسان مخلوق من النطفة والطمث وهما من الأغذية الحاصلة من التراب بالذات أو بالواسطة

وقال المهدوي في ذلك : إن كل إنسان مخلوق ابتداء من طين لخبر " ما من مولود يولد إلا ويذر على نطفته من تراب حفرته " وفي القلب من هذا شيء، والحديث إن صح لا يخلو من ضرب من التجوز، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي خلق آباءكم، وأيا ما كان ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى شأنه على البعث ما لا يخفى، فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة

ثم قضى أي قدر وكتب أجلا أي حدا معينا من الزمان للموت، و (ثم) للترتيب في الذكر دون الزمان لتقدم القضاء على الخلق، وقيل: الظاهر الترتيب في الزمان، ويراد بالتقدير والكتابة ما تعلم به الملائكة وتكتبه كما وقع في حديث الصحيحين: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد "

وأجل مسمى أي حد معين للبعث من القبور، وهو مبتدأ وصح الابتداء به لتخصيصه بالوصف أو لوقوعه في موقع التفصيل و عنده هو الخبر وتنوينه لتفخيم شأنه وتهويل أمره، وقدم على خبره الظرف [ ص: 88 ] مع أن الشائع في النكرة المخبر عنها به لزوم تقديمه عليها وفاء بحق التفخيم، فإن ما قصد به ذلك حقيق بالتقديم، فالمعنى وأجل أي أجل مستقل بعلمه سبحانه وتعالى لا يقف على وقت حلوله سواه جل شأنه لا إجمالا ولا تفصيلا، وهذا بخلاف أجل الموت فإنه معلوم إجمالا بناء على ظهور أماراته أو على ما هو المعتاد في أعمال الإنسان

وقيل : وجه الإخبار عن هذا أو التقييد بكونه عنده سبحانه وتعالى أنه من نفس المغيبات الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى، والأول أيضا وإن كان لا يعلمه إلا هو قبل وقوعه كما قال تعالى : وما تدري نفس بأي أرض تموت لكنا نعلمه للذين شاهدنا موتهم، وضبطنا تواريخ ولادتهم ووفاتهم فنعلمه سواء أريد به آخر المدة أو جملتها متى كانت وكم مدة كان

وذهب بعضهم إلى أن الأجل الأول ما بين الخلق والموت والثاني ما بين الموت والبعث، وروى ذلك الحسن وابن المسيب وقتادة والضحاك واختاره الزجاج ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه حيث قال : قضى أجلا من مولده إلى مماته، وأجل مسمى عنده من الممات إلى البعث لا يعلم ميقاته أحد سواه سبحانه، فإذا كان الرجل صالحا واصلا لرحمه زاد الله تعالى له في أجل الحياة من أجل الممات إلى البعث، وإذا كان غير صالح ولا واصل نقصه الله تعالى من أجل الحياة وزاد من أجل الممات، وذلك لقوله تعالى : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ، وعليه فمعنى عدم تغيير الأجل عدم تغيير آخره، وقيل : الأجل الأول الزمن الذي يحيى به أهل الدنيا إلى أن يموتوا، والأجل الثاني أجل الآخرة الذي لا آخر له، ونسب ذلك إلى مجاهد وابن جبير واختاره الجبائي

ولا يخفى بعد إطلاق الأجل على المدة الغير المتناهية، وعن أبي مسلم أن الأجل الأول أجل من مضى، والثاني أجل من بقي ومن يأتي، وقيل : الأول النوم والثاني : الموت رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأيده الطبرسي بقوله تعالى : ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ولا يخفى بعده لأن النوم وإن كان أخا للموت لكنه لم تعهد تسميته أجلا وإن سمي موتا، وقيل : إن كلا الأجلين للموت ولكل شخص أجلان أجل يكتبه وهو يقبل الزيادة والنقص وهو المراد بالعمر في خبر "إن صلة الرحم تزيد في العمر" ونحوه، وأجل مسمى عنده سبحانه وتعالى لا يقبل التغيير ولا يطلع عليه غيره عز شأنه، وكثير من الناس قالوا : إن المراد بالزيادة الواردة في غير ما خبر الزيادة بالبركة والتوفيق للطاعة، وقيل : المراد طول العمر ببقاء الذكر الجميل كما قالوا : ذكر الفتى عمره الثاني وضعفه الشهاب، وقيل : الأجلان واحد والتقدير وهذا أجل مسمى فهو خبر مبتدإ محذوف و (عنده) خبر بعد خبر أو متعلق بـ (مسمى) وهو أبعد الوجوه

ثم أنتم تمترون

2

- أي تشكون في البعث كما أخرجه ابن أبي حاتم عن خالد بن معدان، وعن الراغب المرية التردد في المتقابلين، وطلب الأمارة مأخوذ من مرى الضرع إذا مسحه للدر ، ووجه المناسبة في استعماله في الشك أن الشك سبب لاستخراج العلم الذي هو كاللبن الخالص من بين فرث ودم، قيل : الامتراء الجحد، وقيل : الجدال وأيا ما كان فالمراد استبعاد امترائهم في وقوع البعث وتحققه في نفسه مع مشاهدتهم في أنفسهم من الشواهد ما يقطع مادة ذلك بالكلية، فإن من قدر على إفاضة الحياة وما يتفرع عليها على مادة غير مستعدة لشيء من ذلك كان أوضح اقتدارا على إفاضته على مادة قد استعدت له وقارنته مدة ومن هذا يعلم أن شطرا من تلك الأوجه [ ص: 89 ] السابقة آنفا لا يلائم مساق النظم الكريم وتوجيه الاستبعاد إلى الامتراء على التفسير الأول مع أن المخاطبين جازمون بانتفاء البعث مصرون على جحوده وإنكاره كما ينبئ عنه كثير من الآيات للدلالة على أن جزمهم ذلك في أقصى مراتب الاستبعاد والاستنكار

وذكر بعض المحققين أن الآية الأولى دليل التوحيد كما أن هذه دليل البعث، ووجه ذلك بأنها تدل على أنه لا يليق الثناء والتعظيم بشيء سواه عز وجل لأنه المنعم لا أحد غيره، ويلزم منه أنه لا معبود ولا إله سواه بالطريق الأولى، وزعم بعضهم أنها لا تدل على ذلك إلا بملاحظة برهان التمانع إذ لو قطع النظر عنه لا تدل على أكثر من وجود الصانع، ومنشأ ذلك حمل الدليل على البرهان العقلي أو مقدماته التي يتألف منها أشكاله، وليس ذلك باللازم ومن الناس من جعل الآية الأولى أيضا دليلا على البعث على منوال قوله تعالى : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر

التالي السابق


الخدمات العلمية