ومن باب الإشارة في الآيات
وله ما سكن في الليل والنهار يحتمل أن يكون الليل والنهار إشارة إلى قلب الكافر وقلب المؤمن وما سكن فيهما الكفر والإيمان، ومعنى كون ذلك له سبحانه أنه من آثار جلاله وجماله، ويحتمل أن يكون إشارة إلى قلب العارف في حالتي القبض والبسط فكأنه قيل : وله ما سكن في قلوب العارفين المنقبضة والمنبسطة من آثار التجليات فلا تلتفت في الحالتين إلى سواه عز شأنه
[ ص: 140 ] وهو السميع العليم فيسمع خواطرها السيئة والحسنة ويعلم شرها وخيرها أو فيسمع أنينها في شوقه ويعلم انسهابه أو نحو ذلك
قل أغير الله أتخذ وليا أي ناصرا ومعينا
فاطر السماوات والأرض أي مبدعها فهي ملكه سبحانه ونسبة المملوك إلى المالك نسبة اللاشيء إلى الشيء
وهو يطعم ولا يطعم فهو الغني المطلق وغيره جل شأنه محتاج بحت، وطلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة من عقله
قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم نفسه لربه عز شأنه، والمراد بالأمر بذلك الأمر الكوني أي قل إني قيل لي كن أول من أسلم فكنت وذلك قبل ظهور هذه التعيينات، وإليه الإشارة بما شاع من قوله صلى الله عليه وسلم: "
كنت نبيا وآدم بين الماء والطين فأول روح ركضت في ميدان الخضوع والانقياد والمحبة روح نبينا صلى الله عليه وسلم قد أسلم نفسه لمولاه بلا واسطة وكل إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أسلموا نفوسهم بواسطته عليه الصلاة والسلام فهو صلى الله عليه وسلم المرسل إلى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في عالم الأرواح وكلهم أمته وهم نوابه في عالم الشهادة، ولا ينافي ذلك أمره عليه الصلاة والسلام باتباع بعضهم في النشأة الجسمانية لأن ذلك لمحض استجلاب المعتقدين بأولئك البعض على أحسن وجه
ولا تكونن من المشركين أي وقيل لي لا تكونن ممن أشرك مع الله تعالى أحدا بشيء من الأشياء
وهو القاهر فوق عباده بإفنائهم والتصرف بهم كيف شاء،
وهو الحكيم أي الذي يفعل ما يفعل في عباده بالحكمة،
الخبير الذي يطلع على خفايا الأحوال ومراتب الاستحقاق
قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم بإظهار المعجزات، وأعظم من ذلك عند العارفين ظهور أنوار الله تعالى في مرآة وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وذلك بالصفات التي وجدوها في كتابهم لا بالنور المتلألئ على صفحات ذلك الوجه الكريم
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا بإثبات وجود غيره تعالى
أو كذب بآياته فأظهر صفات نفسه
إنه لا يفلح الظالمون لاحتجابهم بما وضعوه في موضع ذات الله تعالى وصفاته جل وعلا
ويوم نحشرهم جميعا وهو يوم القيامة الكبرى وعين الجمع
ثم نقول للذين أشركوا بإثبات الغير
أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء ولهم وجود
ثم لم تكن فتنتهم أي نهاية شركهم عند ظهور الأمر وبروز الكل لله الواحد القهار
إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين لامتناع وجود شيء نشركه
انظر كيف كذبوا على أنفسهم بنفي الشرك عنها مع رسوخ ذلك الاعتقاد فيها، (وضل) أي ضاع عنهم
ما كانوا يفترون فلم يجدوه
ومنهم من يستمع إليك من حيث أنت
وجعلنا على قلوبهم أكنة حسبما اقتضاه استعدادهم
أن يفقهوه وهي ظلمات النفس الأمارة
وفي آذانهم وقرا وهو وقر الضلالة
وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها لأن على أبصارهم غشاوة العجب والجهل
ولو ترى إذ وقفوا على النار وهي نار الحرمان
فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا من تجليات صفاته
ونكون من المؤمنين أي الموحدين
بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل في أنفسهم من الملكات الرديئة والهيئات المظلمة والصفات المهلكة،
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه لرسوخ ذلك فيهم
وإنهم لكاذبون في الدنيا والآخرة لأن الكذب عن ملكة فيهم،
ولو ترى إذ وقفوا على ربهم الآية، قال بعض أهل التأويل هذا التصوير لحالهم في الاحتجاب والبعد وإن كانوا في عين الجمع المطلق، والوقوف على الشيء غير الوقوف معه فإن الأول لا يكون إلا كرها والثاني يكون طوعا ورغبة، فالواقف مع الله سبحانه بالتوحيد لا يوقف للحساب وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :
[ ص: 141 ] واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ،
ما عليك من حسابهم من شيء ويثاب هذا بأنواع النعيم في الجنان كلها ومن وقف مع الغير بالشرك وقف على الرب تعالى وعذب بأنواع العذاب لأن الشرك ظلم عظيم ومن وقف مع الناسوت بمحبة الشهوات وقف على الملكوت وعذب بنيران الحرمان وسلط عليه زبانية الهيئات المظلمة وقرن بشياطين الأهواء المردية، ومن وقف مع الأفعال وقف على الجبروت وعذب بنار الطمع والرجاء ورد إلى مقام الملكوت ومن وقف مع الصفات وقف على الذوات وعذب بنار الشوق والهجران وليس هذا هو الوقوف على الرب لأن فيه حجاب الآنية، وفي الوقوف على الذات معرفة الرب الموصوف بصفات اللطف، والمشرك موقوف أولا على الرب فيحجب بالرد والطرد
اخسئوا فيها ولا تكلمون ثم على الجبروت فيطرد بالسخط واللعن ولا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامةثم على الملكوت فيزجر بالغضب واللعن
قيل ادخلوا أبواب جهنم ثم على النار يسجرون فيعذب بأنواع النيران أبدا فيكون وقفه على النار متأخرا على وقفه على الرب تعالى معلولا له قال تعالى :
ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون وأما الواقف مع الناسوت فيوقف للحساب على الملكوت ثم على النار وقد ينجو لعدم السخط وقد لا ينجو لوجوده، والواقف مع الأفعال لا يوقف على النار أصلا بل يحاسب ويدخل الجنة، وأما الواقف مع الصفات فهو من الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه انتهى فتأمل فيه،
قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة وهي القيامة الصغرى أعني الموت حكي عن بعض الكبار أنه قيل له : إن فلانا مات فجأة فقال : لا عجب إذ من لم يمت فجأة مرض فجأة فمات،
قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها أي في حق تلك الساعة بترك العمل النافع
وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم تصوير لحالهم
وما الحياة الدنيا أي الحياة الحسية فإن المحسوس أدنى وأقرب من المعقول
إلا لعب ولهو لا أصل له ولا حقيقة سريع الفناء والانقضاء
وللدار الآخرة أي عالم الروحانيات
خير للذين يتقون وهم المتجردون عن ملابس الصفات البشرية واللذات البدنية
قد نعلم إنه ليحزنك لمقتضى البشرية (الذين يقولون) ما يقولون
فإنهم لا يكذبونك في الحقيقة
ولكن الظالمين بآيات الله التي تجلى بها
يجحدون فهو سبحانه ينتقم منهم
ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا فتأس بهم وانتظر الغاية
ولا مبدل لكلمات الله التي يتجلى بها لعباده فليطمئن قلبك ولا تكونن من الجاهلين الذين لا يطلعون على حكمة تفاوت الاستعدادات فتتأسف على احتجاب من احتجب وتكذيب من كذب. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل