ثم أنه عليه السلام لما تبرأ مما تبرأ منه توجه إلى مبدع هذه المصنوعات وموجدها فقال :
إني وجهت وجهي للذي فطر أي أوجد وأنشأ
السماوات التي هذه الأجرام من أجزائها
والأرض التي تلك الأصنام من أجزائها
حنيفا أي مائلا عن الأديان الباطلة والعقائد الزائغة كلها
وما أنا من المشركين
79
- أصلا في شيء من الأقوال والأفعال. والمراد من توجيه الوجه للذي فطر إلخ قصده سبحانه بالعبادة
وقال الإمام : المراد وجهت عبادتي وطاعتي، وسبب جواز هذا الجواز أن من كان مطيعا لغيره منقادا لأمره فإنه يتوجه بوجهه إليه فجعل توجه الوجه إليه كناية عن الطاعة، والظاهر أن اللام صلة وجه. وفي الصحاح وجهت وجهي لله وتوجهت نحوك وإليك، وظاهره التفرقة بين وجه وتوجه باستعمال الأول باللام والثاني بإلى، وعليه وجه اللام هنا دون إلى ظاهر، وليس في القاموس تعرض لهذا الفرق. وادعى الإمام أنه حيث كان المعنى توجيه وجه القلب إلى خدمته تعالى وطاعته لأجل عبوديته لا توجه القلب إليه جل شأنه لأنه متعال عن الحيز والجهة تركت إلى واكتفى باللام فتركها. والاكتفاء باللام ههنا دليل ظاهر على كون المعبود متعاليا عن الحيز والجهة؛ وفي القلب من ذلك شيء، فإن قيل : إن قصارى ما يدل عليه الدليل أن الكوكب
[ ص: 204 ] والشمس والقمر لا يصلح شيء منها للربوبية والألوهية ولا يلزم من هذا القدر نفي الشرك مطلقا وإثبات التوحيد فلم جزم عليه السلام بإثبات التوحيد ونفي الشرك بعد إقامة ذلك الدليل؟ فالجواب بأن القوم كانوا مساعدين على نفي سائر الشركاء وإنما نازعوا في هذه الصورة المعينة فلما ثبت بالدليل على أن هذه الأشياء ليست أربابا ولا آلهة وثبت بالاتفاق نفي غيرها لا جرم حصل الجزم بنفي الشركاء على الإطلاق. ثم أن المشهور أن هذا الاستدلال من أول ضروب الشكل الثاني
والشخصية عندهم في حكم الكلية كأنه قيل : هذا أو القمر أو هذه أو أفلت ولا شيء من الإله بآفل أو ربي ليس بآفل ينتج هذا أو القمر أو هذه ليس بإله أو ليس بربي. أما الصغرى فهي كالمصرح بها في قوله تعالى: (فلما أفل) في الموضعين وقوله سبحانه :
فلما أفلت في الأخير، وأما الكبرى فمأخوذة من قوله تعالى :
لا أحب الآفلين لأنه يشير إلى قياس. وهو كل آفل لا يستحق العبودية. وكل من لا يستحق العبودية فليس بإله ينتج من الأول كل آفل ليس بإله، ويستلزم لا شيء من الآفل بإله لاستلزام الموجبة المعدولة السالبة المحصلة. ويصح جعل الكبرى ابتداء سالبة فينتج ما ذكر وينعكس إلى لا شيء من الإله بآفل، وهي إحدى الكبريين ويعلم من هذا بأدنى التفات كيفية أخذ الكبرى الثانية
وقال الملوي : الأحسن أن يقال إن قوله تعالى :
لا أحب الآفلين يتضمن قضية وهي لا شيء من الآفل يستحق العبودية فتجعل كبرى لصغرى ضرورية وهي الإله المستحق للعبودية ينتج لا شيء من الإله بآفل، وإذا ضمت هذه النتيجة إلى القضية السابقة وهي هذا آفل ونحوه أنتج من الثاني هذا ليس بإله أو لا شيء من القمر بإله، وإن ضممت عكسها المستوي إليها أنتج من الأول المطلوب بعينه فلا يتعين الثاني في الآية بل الأول مأخوذ منها أيضا، اهـ. فتأمل فيه ولا تغفل