[ ص: 2 ] ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة تصريح بما أشعر به قوله عز وجل :
وما يشعركم .. إلخ . من الحكمة الداعية إلى ترك الإجابة إلى ما اقترحوا وبيان لكذبهم في إيمانهم على أبلغ وجه وآكده أي ولو أنا لم نقتصر على ما اقترحوه ها هنا بل نزلنا إليهم الملائكة كما سألوه بقولهم :
لولا أنزل علينا الملائكة وقولهم
لو ما تأتينا بالملائكة وكلمهم الموتى بأن أحييناهم وشهدوا بحقية الإيمان حسبما اقترحوه بقولهم :
فأتوا بآبائنا وحشرنا أي جمعنا وسوقنا
عليهم كل شيء قبلا أي مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم كما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة وهو على هذا مصدر كما قاله غير واحد وإلى ذلك ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16327ابن زيد وعنه : يقال لقيت فلانا قبلا ومقابلة وقبلا وقبلا وقبيلا كله بمعنى واحد وهو المواجهة ونقل
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب أنه جمع قابل بمعنى مقابل لحواسهم وقيل : هو جمع قبيل بمعنى كفيل كرغيف ورغف وقضيب وقضب فهو من قولك : قبلت الرجل وتقبلت به إذا تكفلت به ومنه القبالة لكتاب العهد والصك وروي ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد تفسيره بالجماعة على أنه جمع قبيلة كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب ونقل تفسيره بالكفيل وبالجماعة وكذا بالمعاينة والمقابلة في قوله تعالى :
أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أي لو أحضرنا لديهم كل شيء تتأتى منهم الكفالة والشهادة بحقية الإيمان لا فرادى بل بطريق المعية أو لو حشرنا عليهم كل شيء جماعات في موقف واحد
ما كانوا ليؤمنوا أي ما صح ولا استقام لهم الإيمان وانتصاب ( قبلا ) على هذه الأقوال على أنه حال من ( كل ) وساغ ذلك على القول بجمعيته لأن كلا يجوز مراعاة معناه ومراعاة لفظه كما نص عليه النحاة واستشهدوا له بقول
عنترة :
جادت عليه كل عين ثرة فتركن كل حديقة كالدرهم
إذ قال تركن دون تركت فلا حاجة إلى ما قيل إن ذلك باعتبار لازمه وهو الكل المجموعي : وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع nindex.php?page=showalam&ids=16447وابن عامر ( قبلا ) بكسر القاف وفتح الباء وهو مصدر بمعنى مقابلة ومشاهدة ونصبه على الحال كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء nindex.php?page=showalam&ids=14416والزجاج وكثير وعن
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد أنه بمعنى جهة وناحية فانتصابه على الظرفية كقولهم : لي قبل فلان كذا وقرئ قبلا بضم فسكون و
ما كانوا .. إلخ . جواب لو وهو إذا كان منفيا لا تدخله اللام خلافا لمن وهم فقدرها
وعلل هذا الحكم بسوء استعدادهم الثابت أزلا في علم الله تعالى المتعلق بالأشياء حسبما هي عليه في نفس الأمر وعلله البعض بسبق القضاء عليهم بالكفر واعترض عليه بعض الأفاضل بأن فيه تعليل الحوادث بالتقدير الأزلي ولا يخفى فساده وعلله ببطلان استعدادهم وتبدل فطرتهم القابلة بسوء اختيارهم وتبعه في ذلك شيخ الإسلام وعلله بتماديهم في العصيان وغلوهم وتمردهم في الطغيان معترضا على ما ذكر بأنه من الأحكام المترتبة على التمادي المذكور حسبما ينبئ عنه قوله تعالى :
ونذرهم في طغيانهم يعمهون وتعقب ذلك الشهاب
[ ص: 3 ] قائلا : إنه ليس بشيء لأن ما ذكر على مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري القائل بأنه لا تأثير لاختيار العبد وإن قارن الفعل عنده ولا يلزم الجبر كما يتوهم على ما حققه أهل الأصول ولا خفاء في كون القضاء الأزلي سببا لوقوع الحوادث ولا فساد فيه وأما سوء اختيار العبد فسبب للقضاء الأزلي وتحقيقه كما قيل إن سوء الاختيار وإن كان كافيا في عدم وقوع الإيمان لكنه لا قطع فيه لجواز أن يحسن الاختيار بصرفه إلى الإيمان بدل صرفه إلى الكفر فكان سوء اختياره فيما لا يزال سببا للقضاء بكفره في الأزل فبعد القضاء يكون الواقع منه الكفر حتما كما قال سبحانه :
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها . انتهى . وأنا أقول وإن أنكر على أرباب الفضول : إن المعلل بسوء الاستعداد هو السالك مسلك السداد وتحقيق ذلك أنه قد حقق كثير من الراسخين وأهل الكشف الكاملين أن ماهيات الممكنات المعلومة لله تعالى أزلا معدومات متميزة في نفسها تمييزا ذاتيا غير مجعول لما حقق من توقف العلم بها على ذلك التميز وإنما المجعول صورها الوجودية الحادثة وأن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة تختلف اقتضاءاتها فمنها ما يقتضي اختيار الإيمان والطاعة ومنها ما يقتضي اختيار الكفر والمعصية والعلم الإلهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فإذا تعلق العلم الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد الطرفين الممكنين أعني الإيمان والطاعة أو الكفر والمعصية تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي اختاره العبد حال عدمه بمقتضى استعداده تفضلا ورحمة لا وجوبا لغناه الذاتي عن العالمين المصحح لصرف اختيار العبد إلى الطرف الآخر الممكن بالذات إن شاء فيصير مراد العباد بعد تعلق الإرادة الإلهية مراد الله تعالى ومن هذا ظهر أن اختيارهم الأزلي بمقتضى استعدادهم متبوع للعلم المتبوع للإرادة مراعاة للحكمة تفضلا وأن اختيارهم فيما لا يزال تابع للإرادة الأزلية المتعلقة باختيارهم لما اختاروه فهم مجبورون فيما لا يزال في عين اختيارهم أي مساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر ومنه يتضح معنى قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه : إن الله تعالى لم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يملك تفويضا ولم يكونوا مجبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة التابع للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعا لما هو متأخر عنه بمراتب فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى لأنه سبحانه متفضل بإيجاد ما اختاروه لا يجب عليه مراعاة الحكمة ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأن إرادته جل شأنه لم تتعلق بما صدر منهم من الأفعال إلا لكونهم اختاروها أزلا بمقتضى استعدادهم فاختار تعالى مراعاة للحكمة تفضلا والعباد كاسبون بالله تعالى إذ لا كسب إلا بقوة ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والله تعالى خالق أعمالهم بهم لأنه سبحانه أخبر بأنه خالق أعمالهم مع نسبة العمل إليهم المتبادر منها صدورها منهم باختيارهم وذلك يقتضي أن المخلوق لله تعالى بالعبد عين مكسوب العبد بالله تعالى ولا منافاة بين كون الأعمال مخلوقة لله تعالى وبين كونها مكسوبة لهم بقدرهم واختيارهم وما شاع عن الأشعري من أنه لا تأثير لقدرة العبد أصلا وإنما هي مقارنة للفعل وهو بمحض قدرة الله تعالى فمما لا يكاد يقبل عند المحققين المحقين وقدرة العبد عندهم مؤثرة بإذن الله تعالى لا استقلالا كما يزعمه
المعتزلة ولا غير مؤثرة كما نسب إلى
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري ولا هي منفية بالكلية كما يقوله
الجبرية وهذا بحث مفروغ منه وقد أشرنا إليه في أوائل التفسير وليس
[ ص: 4 ] غرضنا هنا سوى تحقيق أن عدم إيمان الكفار إنما هو لسوء استعدادهم الأزلي الغير المجعول المتبوع للعلم المتبوع للإرادة ليعلم منه ما في كلام الشهاب وغيره وقد حصل ذلك بتوفيقه تعالى عند من تأمل وأنصف .
إلا أن يشاء الله استثناء من أعم الأحوال فإن لوحظ أن جميع أحوالهم شاملة لحال تعلق المشيئة بهم فهو متصل وإن لم يلاحظ لأن حال المشيئة ليس من أحوالهم كان منقطعا أي لكن إن شاء الله تعالى آمنوا واستبعده
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان وقيل : هو استثناء من أعم الأزمان وهو خلاف الظاهر والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة أي ما كانوا ليؤمنوا بعد اجتماع ما ذكر من الأمور الموجبة للإيمان في حال من الأحوال إلا في حال مشيئته تعالى إيمانهم والمراد بيان استحالة وقوع إيمانهم بناء على استحالة وقوع المشيئة كما يدل عليه السباق واللحاق
ولكن أكثرهم يجهلون (111) استثناء من مضمون الشرطية بعد ورود الاستثناء وضمير الجمع للمسلمين أو للمقسمين والمعنى أن حالهم كما شرح ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى إيمانهم حينئذ فيقسمون بالله تعالى جهد أيمانهم على ما يكاد يوجد أصلا فالجملة على الأول كما قال بعض المحققين مقررة لمضمون قوله تعالى :
وما يشعركم .. إلخ . على القراءة المشهورة وعلى الثاني بيان لمنشأ خطأ المقسمين ومناط إقسامهم على تلك القراءة أيضا وتقرير له على قراءة ( لا تؤمنون ) بالفوقانية وكذا على قراءة ( وما يشعرهم أنها إذا جاءت لا يومنون ) واستدل أهل السنة بالآية على أن الله تعالى يشاء من الكافر كفره وقرر ذلك بأنه سبحانه لما ذكر أنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله تعالى إيمانهم دل على أنه جل شأنه ما شاء إيمانهم بل كفرهم .
وأجاب عنه
المعتزلة بأن المراد إلا أن يشاء مشيئة قسر وإكراه وعدم إيمانهم يستلزم عدم المشيئة القسرية وهي لا تستلزم عدم المشيئة مطلقا واستدل بها الجبائي على حدوث مشيئته تعالى وإلا يلزم قدم ما دل الحس على حدوثه وأهل السنة تفصوا عن ذلك بدعوى أن تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحال إضافة حادثة فتأمل جميع ذلك :