قل أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت بأن يبين لهم ما حرم عليهم .
وقوله سبحانه :
لا أجد في ما أوحي إلي محرما .. إلخ . كناية عن عدم الوجود وفيه إيذان بأن طريق التحريم ليس إلا التنصيص من الله تعالى دون التشهي والهوى وتنبيه كما قيل على أن الأصل في الأشياء الحل و
محرما صفة لمحذوف دل عليه ما بعد وقد قام مقامه بعد حذفه فهو مفعول أول لأجد ومفعوله الثاني
في ما أوحي قدم للاهتمام لا لأن المفعول الأول نكرة لأنه نكرة عامة بالنفي فلا يجب تقديم المسند بالظرف وليس المفعول الأول محذوفا أي لا أجد ريثما تصفحت ما أوحي إلي قرآنا وغيره على ما يشعر به العدول عن أنزل إلي ( أوحي ) أو ما أوحي إلي من القرآن طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها
على طاعم أي طاعم كان من ذكر أو أنثى ردا على قولهم : " ( محرم على أزواجنا ) " وقوله تعالى :
يطعمه في موضع الصفة لطاعم جيء به كما في قوله سبحانه :
طائر يطير قطعا للمجاز وقرئ ( يطعمه ) بالتشديد وكسر العين والأصل يطتعمه فأبدلت التاء طاء وأدغمت فيها الأولى والمراد بالطعم تناول الغذاء وقد يستعمل طعم في الشراب أيضا كما تقدم في الكلام عليه والمتبادر هنا الأول وقد يراد به مطلق النفع ومنه ما في حديث بدر ما قتلنا أحدا به طعم ما قتلنا الأعجاز صلعا أي قتلنا من لا منفعة له ولا اعتداد به وإرادة هذا المعنى هنا بعيد جدا ولم أر من قال به نعم قيل : المراد سائر أنواع التناولات
[ ص: 44 ] من الأكل والشرب وغير ذلك ولعل إرادة غير الأكل فيه بطريق القياس وكذا حمل الطاعم على الواجد من قولهم : رجل طاعم أي حسن الحال مرزوق وإبقاء ( يطعمه ) على ظاهره أي على واجد يأكله فلا يكون الوصف حينئذ لزيادة التقرير على ما أشرنا إليه .
إلا أن يكون ذلك الطعام أو الشيء المحرم
ميتة المراد بها ما لم يذبح ذبحا شرعيا فيتناول المنخنقة ونحوها وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير nindex.php?page=showalam&ids=15760وحمزة ( تكون ) بالتاء لتأنيث الخبر وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16447ابن عامر nindex.php?page=showalam&ids=11962وأبو جعفر يكون ميتة بالياء ورفع ميتة
nindex.php?page=showalam&ids=11962وأبو جعفر يشدد أيضا على أن كان هي التامة
أو دما عطف على
ميتة أو على ما في حيزه وقوله سبحانه :
مسفوحا أي مصبوبا سائلا كالدم في العروق صفة له خرج به الدم الجامد كالكبد والطحال وفي الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=70699أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ودمان الكبد والطحال وقد رخص في دم العروق بعد الذبح وإلى ذلك ذهب كثير من الفقهاء وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16584عكرمة أنه قال : لولا هذا القيد لاتبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود .
أو لحم خنزير فإنه أي اللحم كما قيل لأنه المحدث عنه أو الخنزير لأنه الأقرب ذكرا وذكر اللحم لأنه أعظم ما ينتفع به منه فإذا حرم فغيره بطريق الأولى وقيل وهو خلاف الظاهر : الضمير لكل من الميتة والدم ولحم الخنزير على معنى فإن المذكور
رجس أي قذر أو خبيث مخبث
أو فسقا عطف على
لحم خنزير على ما اختاره كثير من المعربين وما بينهما اعتراض مقرر للحرمة
أهل لغير الله به صفة له موضحة وأصل الإهلال رفع الصوت والمراد الذبح على اسم الأصنام وإنما سمي ذلك فسقا لتوغله في الفسق وجوز أن يكون ( فسقا ) مفعولا له لأهل وهو عطف على ( يكون ) و ( به ) قائم مقام الفاعل والضمير راجع إلى ما رجع إليه المستكن في ( يكون ) .
قال أبو حيان : وهذا إعراب متكلف جدا والنظم عليه خارج عن الفصاحة وغير جائز على قراءة من قرأ ( إلا أن يكون ميتة ) بالرفع لأن ضمير ( به ) ليس له ما يعود عليه ولا يجوز أن يتكلف له موصوف محذوف يعود عليه الضمير أي شيء أهل لغير الله به لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعراء . اهـ . وعنى بذلك كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14158الحلبي إنه لا يحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام من التبعيضية نحو منا أقام ومنا ظعن أي فريق أقام وفريق ظعن فإن لم يكن فيه من كان ضرورة كقوله .
ترمي بكفي كان من أرمى البشر
أراد بكفي رجل كان .. إلخ . وهذا كما حقق في موضعه رأي بعض وأما غيره فيقول : متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقا فيجوز أن يرى المجوز هذا الرأي ومنعه من حيث رفع الميتة كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14486السفاقسي فيه نظر لأن الضمير يعود على ما يعود عليه بتقدير النصب والرفع لا يمنع من ذلك نعم الإعراب الأول أولى كما لا يخفى
فمن اضطر أي أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء من ذلك
غير باغ أي طالب ما ليس له طلبه بأن يأخذ ذلك من مضطر آخر مثله وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن : أي غير متناول للذة وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد :
غير باغ على إمام
ولا عاد أي متجاوز قدر
[ ص: 45 ] الضرورة
فإن ربك غفور رحيم (145) مبالغ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك وهذا جزاء الشرط لكن باعتبار لازم معناه وهو عدم المؤاخذة وبعضهم قال بتقدير جزاء يكون هذا تعليلا له ولا حاجة إليه .
ونصب ( غير ) على أنه حال وكذا ما عطف عليه وليس التقييد بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجد القيد بالمعنى السابق لتحققت الحرمة المبحوث عنها بل للتحذير من حرام آخر وهو أخذه حق مضطر آخر فإن من أخذ لحم ميتة مثلا من مضطر آخر فأكله فإن حرمته ليست باعتبار كونه لحم الميتة بل باعتبار كونه حقا للمضطر الآخر وأما الحال الثانية فلتحقيق زوال الحرمة المبحوث عنها قطعا فإن التجاوز عن القدر الذي يسد به الرمق حرام من حيث أنه لحم الميتة .
وفي التعرض لوصفي المغفرة والرحمة إيذان بأن المعصية باقية لكن الله تعالى يغفر له ويرحمه وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر ولا تغفل واستشكلت هذه الآية بأنها حصرت
المحرمات من المطعومات في أربعة الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير والفسق الذي أهل لغير الله تعالى به ولا شك أنها أكثر من ذلك وأجيب بأن المعنى لا أجد محرما مما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب كما أشرنا إليه وحينئذ يكون استثناء الأربعة منه منقطعا أي لا أجد ما حرموه لكن أجد الأربعة محرمة وهذا لا دلالة فيه على الحصر والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر كما نبهوا عليه وهو مما ينبغي التنبه له .
فإن قلت : المستثنى ليس ميتة بل كونه ميتة وذلك ليس من جنس الطعام فيكون الاستثناء منقطعا لا محالة فلا حاجة إلى ذلك التقييد قال القطب : نعم كذلك إلا أن المقصود إخراج الميتة من الطعام المحرم يعني لا أجد محرما إلا الميتة فلولا التقييد كان في الحقيقة استثناء متصلا وورد الإشكال وضعف ذلك الجواب بأوجه منها أنه تعالى قال في سورة البقرة وفي سورة النحل :
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وإنما تفيد الحصر وقال سبحانه في سورة المائدة :
أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله عز وجل
إلا ما يتلى عليكم قوله تعالى :
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وأما المنخنقة والموقوذة وغيرهما فهي أقسام الميتة وإنما أعيدت بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فالآيتان تدلان على أن لا محرم إلا لأربعة وحينئذ يجب القول بدلالة الآية التي نحن بصددها على الحصر لتطابق ذلك وأن لا تقييد مع أن الأصل عدم التقييد .
وأجيب عن الإشكال بأن الآية إنما تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية محرما غير ما نص عليه فيها وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر قيل : وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغا بمعنى لا أجد شيئا من المطاعم محرما في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال إلا في وقت أو حال كون الطعام أحد الأربعة فإني أجد حينئذ محرما فالمصدر المتحصل من أن يكون للزمان أو الهيئة واعترض الإمام هذا الجواب بأن ما يدل على الحصر من الآيات نزل بعد استقرار الشريعة فيدل على أن الحكم الثابت في الشريعة المحمدية من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر
[ ص: 46 ] المحرمات في هذه الأشياء وبأنه لما ثبت بمقتضى ذلك حصر المحرمات في الأربعة كان هذا اعترافا بحل ما سواها والقول بتحريم شيء خامس يكون نسخا ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ لأنه لو كان احتمال طريان النسخ معادلا لاحتمال بقاء الحكم على ما كان فحينئذ يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال : إنه وإن كان ثابتا إلا أنه زال وما قيل في الاستثناء يرد عليه أن المصدر المؤول من أن والفعل لا ينصب على الظرفية ولا يقع حالا لأنه معرفة وبعضهم قال لاتصال الاستثناء : إن التقدير إلا الموصوف بأن يكون أحد الأربعة على أنه بدل من
محرما وفيه تكلف ظاهر وقيل التقدير على قراءة الرفع إلا وجود ميتة والإضافة فيه من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ميتة موجودة .
وأجيب أيضا عن الإشكال بأن الآية وإن دلت على الحصر إلا أنا نخصصها بالإخبار وتعقبه الإمام أيضا بأن هذا ليس من باب التخصيص بل هو صريح النسخ لأنها لما كان معناها أن لا محرم سوى الأربعة فإثبات محرم آخر قول بأن الأمر ليس كذلك وهو رفع للحصر ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز وأجاب ذلك عن
القطب الرازي بأنه لا معنى للحصر ها هنا إلا أن الأربعة محرمة وما عداها ليس بمحرم وهذا عام فإثبات محرم آخر تخصيص لهذا العام وتخصيص العام بخبر الواحد جائز وقد احتج بظاهر الآية كثير من السلف فأباحوا ما عدا المذكور فيها فمن ذلك الحمر الأهلية أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن عمرو بن دينار قلت لجابر بن عبد الله : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر فقال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أبى ذلك البحر يعني nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وقرأ قل لا أجد فيما أوحي إلي الآية .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ الآية وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قالت
قل لا أجد .. إلخ . وأخرج عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله تعالى في كتابه
قل لا أجد الآية وقوى الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=11943الرازي القول بالظاهر فإنه قال بعد كلام فثبت بالتقرير الذي ذكرناه قوة هذا الكلام وصحة هذا المذهب وهو الذي كان يقول به
مالك بن أنس ثم قال ومن السؤالات الصعبة أن كثيرا من الفقهاء خصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه صلى الله عليه وسلم قال :
ما استخبثته العرب فهو حرام وقد علم أن الذي تستخبثه غير مضبوط فسيد
العرب بل سيد العالمين عليه الصلاة والسلام
لما رآهم يأكلون الضب قال : يعافه طبعي ولم يكن سببا لتحريمه وأما سائر العرب ففيهم من لا يستقذر شيئا وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلم أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم . انتهى . ولا يخفى ما فيه .
واستدل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه :
على طاعم يطعمه على أنه إنما
حرم من الميتة أكلها وأن جلدها يطهر بالدبغ أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد وغيره عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3503803ماتت شاة nindex.php?page=showalam&ids=93لسودة بنت زمعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أخذتم مسكها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت فقال عليه الصلاة والسلام : إنما قال الله تعالى قل لا أجد [ ص: 47 ] في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة وإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه تنتفعوا به .
واستدل الشافعية بقوله سبحانه :
فإنه رجس على
نجاسة الخنزير بناء على عود الضمير على خنزير لأنه أقرب مذكور