وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين
قوله عز وجل:
وهو الذي يتوفاكم بالليل يعني به النوم ، لأنه يقبض الأرواح فيه عن التصرف ، كما يقبضها بالموت ، ومنه قول الشاعر
إن بني الأدرد ليسوا من أحد ولا توفاهم قريش في العدد
أي لا تقبضهم.
ويعلم ما جرحتم بالنهار أي ما كسبتم لأنه مستفاد بعمل الجارحة ، ومنه جوارح الطير لأنها كواسب بجوارحها ، وجرح الشهادة هو الطعن فيها لأنه مكسب الإثم ، قاله
الأعشى: [ ص: 123 ] وهو الدافع عن ذي كربة أيدي القوم إذا الجاني اجترح
ثم يبعثكم فيه يعني في النهار باليقظة ، وتصرف الروح بعد قبضها بالنوم.
ليقضى أجل مسمى يعني استكمال العمر وانقضاء الأجل بالموت.
ثم إليه مرجعكم يعني بالبعث والنشور في القيامة.
ثم ينبئكم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشر. قوله عز وجل:
وهو القاهر فوق عباده فيه وجهان: أحدهما: أنه أعلى قهرا ، فلذلك قال:
فوق عباده والثاني: أن الأقدر إذا استحق صفة المبالغة عبر عنه بمثل هذه العبارة ، فقيل: هو فوقه في القدرة أي أقدر ، وفوقه في العلم أي أعلم.
ويرسل عليكم حفظة فيه وجهان: أحدهما: أنه جوارحهم التي تشهد عليهم بما كانوا يعملون. والثاني: الملائكة. ويحتمل
حفظة وجهين: أحدهما: حفظ النفوس من الآفات. والثاني: حفظ الأعمال من خير وشر ، ليكون العلم بإتيانها أزجر عن الشر ، وأبعث على الخير.
حتى إذا جاء أحدكم الموت يعني أسباب الموت ، بانقضاء الأجل. فإن قيل: المتولي لقبض الروح ملك الموت ، وقد بين ذلك بقوله تعالى:
قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم [السجدة: 11] فكيف قال:
توفته رسلنا والرسل جمع.
[ ص: 124 ] قيل: لأن الله أعان
ملك الموت بأعوان من عنده يتولون ذلك بأمره ، فصار التوفي من فعل أعوانه ، وهو مضاف إليه لمكان أمره ، كما يضاف إلى السلطان فعل أعوانه من قتل ، أو جلد ، إذا كان عن أمره.
وهم لا يفرطون فيه وجهان: أحدهما: لا يؤخرون.
الثاني: لا يضيعون ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . قوله عز وجل:
ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق وفي متولي الرد قولان: أحدهما: أنهم الملائكة التي توفتهم. والثاني: أنه الله بالبعث والنشور. وفي ردهم إلى الله وجهان: أحدهما: معناه ردهم إلى تدبير الله وحده ، لأن الله دبرهم عند خلقهم وإنشائهم ، مكنهم من التصرف فصاروا في تدبير أنفسهم ، ثم كفهم عنه بالموت فصاروا في تدبير الله كالحالة الأولى ، فصاروا بذلك مردودين إليه. والثاني: أنهم ردوا إلى الموضع الذي لا يملك الحكم عليهم فيه إلا الله ، فجعل الرد إلى ذلك الموضع ردا إليه. فإن قيل: فكيف قال:
مولاهم الحق وقد قال:
ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [محمد: 11] . قيل: عنه جوابان: أحدهما: أنه قال هذا لأنهم دخلوا في جملة غيرهم من المؤمنين المردودين فعمهم اللفظ. والثاني: أن المولى قد يعبر به عن الناصر تارة وعن السيد أخرى ، والله لا يكون ناصرا للكافرين ، وهو سيد الكافرين والمؤمنين.
[ ص: 125 ] و
الحق هنا يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن الحق هو من أسمائه تعالى. والثاني: لأنه مستحق الرد عليه. والثالث: لحكمه فيهم بالرد.
ألا له الحكم يعني القضاء بين عباده. فإن قيل: فقد جعل لغيره الحكم؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن له الحكم في يوم القيامة وحده. والثاني: أن غيره يحكم بأمره فصار الحكم له. ويحتمل قوله:
ألا له الحكم وجها ثانيا: أن له أن يحكم لنفسه فصار بهذا الحكم مختصا.
وهو أسرع الحاسبين يحتمل وجهين: أحدهما: يعني سرعة الحكم بين العباد لتعجيل الفصل ، وعبر عن الحكم بالحساب من تحقيق المستوفي بهما من قليل وكثير. والثاني: وهو الظاهر أنه أراد سرعة محاسبة العباد على أعمالهم. ويحتمل مراده بسرعة حسابه وجهين. أحدهما: إظهار قدرته بتعجيل ما يعجز عنه غيره. والثاني: أنه يبين به تعجيل ما يستحق عليه من ثواب ، وتعجيل ما يستحق على غيره من عقاب جمعا بين إنصافه وانتصافه.