صفحة جزء
وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما

قوله عز وجل: وإذ قال موسى لفتاه يعني يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى وسمي فتاه لملازمته إياه ، قيل في العلم ، وقيل في الخدمة ، وهو خليفة موسى على قومه من بعده. وقال محمد بن إسحاق: إن موسى الذي طلب الخضر هو موسى بن منشى بن يوسف ، وكان نبيا في بني إسرائيل قبل موسى بن عمران. والذي عليه جمهور المسلمين أنه موسى بن عمران.

[ ص: 322 ] لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني بحر الروم وبحر فارس ، أحدهما قبل المشرق ، والآخر قبل المغرب ، وحكى الطبري أنه ليس في الأرض مكان أكثر ماء منه. والقول الثاني: هو بحر أرمينية مما يلي الأبواب.

الثالث: الخضر وإلياس ، وهما بحران في العلم ، حكاه السدي. أو أمضي حقبا فيه خمسة أوجه: أحدها: أن الحقب ثمانون سنة ، قاله عبد الله بن عمر.

الثاني: سبعون سنة ، قاله مجاهد .

الثالث: أن الحقب الزمان ، قاله قتادة .

الرابع: أنه الدهر ، قاله ابن عباس ، ومنه قول امرئ القيس:


نحن الملوك وأبناء الملوك ، لنا ملك به عاش هذا الناس أحقابا



الخامس: أنه سنة بلغة قيس ، قاله الكلبي. وفي قوله لا أبرح تأويلان: أحدهما: لا أفارقك ، ومنه قول الشاعر:


إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة     وتحمل أخرى أثقلتك الودائع



[ ص: 323 ] الثاني: لا أزال ، قاله الفراء ، ومنه قول الشاعر:


وأبرح ما أدام الله قومي     بحمد الله منتطقا مجيدا



أي لا أزال. وقيل إنه قال لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين لأنه وعد أن يلقى عنده الخضر عليه السلام. فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما قيل إنهما تزودا حوتا مملوحا وتركاه حين جلسا ، وفيه وجهان: أحدهما: أنه ضل عنهما حتى اتخذ سبيله في البحر سربا ، فسمي ضلاله عنهما نسيانا منهما.

الثاني: أنه من النسيان له والسهو عنه. ثم فيه وجهان: أحدهما: أن الناسي له أحدهما وهو يوشع بن نون وحده وإن أضيف النسيان إليهما ، كما يقال نسي القوم زادهم إذا نسيه أحدهم.

الثاني: أن يوشع نسي أن يحمل الحوت ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء ، فصار كل واحد منهما ناسيا لغير ما نسيه الآخر. فاتخذ سبيله في البحر سربا فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: مسلكا ، قاله مجاهد وابن زيد.

الثاني: يبسا ، قاله الكلبي.

الثالث: عجبا ، قاله مقاتل. قوله عز وجل: فلما جاوزا يعني مكان الحوت. قال لفتاه يعني موسى قال لفتاه يوشع بن نون. آتنا غداءنا والغداء الطعام بالغداة كما أن العشاء طعام العشي والإنسان إلى الغداء أشد حاجة منه إلى العشاء. لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا فيه وجهان: أحدهما: أنه التعب.

الثاني: الوهن.

[ ص: 324 ] قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فيه قولان: أحدهما: قاله مقاتل ، إن الصخرة بأرض تسمى شروان على ساحل بحر أيلة ، وعندها عين تسمى عين الحياة.

الثاني: أنها الصخرة التي دون نهر الزيت على الطريق. فإني نسيت الحوت فيه وجهان: أحدهما: فإني نسيت حمل الحوت.

الثاني: فإني نسيت أن أخبرك بأمر الحوت. وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره أي أنسانيه بوسوسته إلي وشغله لقلبي. واتخذ سبيله في البحر عجبا فيه قولان: أحدهما: أنه كان لا يسلك طريقا في البحر إلا صار ماؤه صخرا فلما رآه موسى عجب من مصير الماء صخرا.

الثاني: أن موسى لما أخبره يوشع بأمر الحوت رجع إلى مكانه فرأى أثر الحوت في البحر ودائرته التي يجري فيها فعجب من عود الحوت حيا. قال ذلك ما كنا نبغ أي نطلب ، وذلك أنه قيل لموسى إنك تلقى الخضر في موضع تنسى فيه متاعك ، فعلم أن الخضر بموضع الحوت. فارتدا على آثارهما قصصا أي خرجا إلى آثارهما يقصان أثر الحوت ويتبعانه. فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا فيه أربعة تأويلات: أحدها: النبوة ، قاله مقاتل: الثاني: النعمة.

الثالث: الطاعة.

الرابع: طول الحياة. وعلمناه من لدنا علما قال ابن عباس لما اقتفى موسى أثر الحوت انتهى إلى رجل راقد وقد سجى عليه ثوبه ، فسلم عليه موسى ، فكشف ثوبه عن وجهه ورد عليه

[ ص: 325 ] السلام وقال: من أنت؟ قال: موسى. قال صاحب بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: وما لك في بني إسرائيل شغل ، قال: أمرت أن آتيك وأصحبك. واختلفوا في الخضر هل كان ملكا أو بشرا على قولين: أحدهما: أنه كان ملكا أمر الله تعالى موسى أن يأخذ عنه مما حمله إياه من علم الباطن.

الثاني: أنه كان بشرا من الإنس. واختلف من قال هذا على قولين: أحدهما: كان نبيا لأن الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من هو فوقه; ولا يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي ، قال مقاتل: هو اليسع لأنه وسع علمه ست سماوات وست أرضين.

الثاني: أنه لم يكن نبيا وإنما كان عبدا صالحا أودعه الله تعالى من علم باطن الأمور ما لم يودع غيره ؛ لأن النبي هو الداعي ، والخضر كان مطلوبا ولم يكن داعيا طالبا ، وقد ذكر أن سبب تسميته بالخضر لأنه كان إذا صلى في مكان اخضر ما حوله.

التالي السابق


الخدمات العلمية