فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى
إيجاس الخوف : إضمار شيء منه ، وكذلك توجس الصوت : تسمع نبأة يسيرة منه ؛ وكان ذلك لطبع الجبلة البشرية ، وأنه لا يكاد يمكن الخلو من مثله ، وقيل : خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه ،
إنك أنت الأعلى : فيه تقرير لغلبته وقهره ، وتوكيد بالاستئناف ، وبكلمة التشديد ، وبتكرير الضمير ، وبلام التعريف ، وبلفظ العلو ، وهو الغلبة الظاهرة وبالتفضيل ، وقوله :
ما في يمينك ولم يقل : عصاك : جائز أن يكون تصغيرا لها ، أي : لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم ، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك ؛ فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها ، وصغره وعظمها ، وجائز أن يكون تعظيما لها ، أي : لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة ؛ فإن في يمينك شيئا أعظم منها
[ ص: 95 ] كلها ، وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده ، فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها ، وقرئ : "تلقف " : بالرفع على الاستئناف ، أو على الحال ، أي ألقها متلقفة ، وقرئ : "تلقف " : بالتخفيف ، "صنعوا " : ها هنا بمعنى : زوروا وافتعلوا ؛ كقوله تعالى :
تلقف ما يأفكون [الأعراف : 117 ] قرئ : "كيد ساحر " : بالرفع والنصب ، فمن رفع فعلى أن " ما" موصولة ، ومن نصب فعلى أنها كافة ، وقرئ : "كيد سحر " : بمعنى : ذي سحر ، أو ذوي سحر ، أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه وبذاته ، أو بين الكيد ؛ لأنه يكون سحرا وغير سحر ، كما تبين المائة بدرهم ؛ ونحوه : علم فقه ، وعلم نحو .
فإن قلت : لم وحد ساحر ولم يجمع ؟
قلت : لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية ، لا إلى معنى العدد ، فلو جمع ، لخيل أن المقصود هو العدد ؛ ألا ترى إلى قوله :
ولا يفلح الساحر أي : هذا الجنس .
فإن قلت : فلم نكر أولا وعرف ثانيا ؟
قلت : إنما نكر من أجل تنكير المضاف ، لا من أجل تنكيره في نفسه ؛ كقول
العجاج [من الرجز ] :
في سعي دنيا طالما قد مدت
[ ص: 96 ] وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر -رضي الله عنه - : "لا في أمر دنيا ولا في أمر آخر " ، المراد تنكير الأمر ، كأنه قيل : إن ما صنعوا كيد سحري ، وفي سعي دنيوي ، وأمر دنيوي وآخري ؛
حيث أتى ؛ كقولهم : حيث سير ، وأية سلك ، وأينما كان .