[ ص: 360 ] لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا
وإنما قال
"ميتا" لأن البلدة في معنى البلد في قوله :
فسقناه إلى بلد ميت [فاطر : 9 ] ، وأنه غير جار على الفعل كفعول ومفعال ومفعيل . وقرئ : "نسقيه" بالفتح . وسقى ، وأسقى :
[ ص: 361 ] لغتان . وقيل : أسقاه : جعل له سقيا . الأناسي : جمع إنسي أو إنسان . ونحوه ظرابي في ظربان ، على قلب النون ياء ، والأصل : أناسين وظرابين . وقرئ بالتخفيف بحذف ياء أفاعيل ، كقولك : أناعم ، في : أناعيم . فإن قلت : إنزال الماء موصوفا بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة ذلك ، كما تقول : حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش . قلت : لما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء ، وصفه بالطهور إكراما لهم ، وتتميما للمنة عليهم ، وبيانا أن من حقهم حين أراد الله لهم الطهارة وأرادهم أن يؤثروها في بواطنهم ثم في ظواهرهم ، وأن يربئوا بأنفسهم عن مخالطة القاذورات كلها كما ربأ بهم ربهم . فإن قلت : لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب ؟ قلت : لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب ، بخلاف الأنعام ؛ ولأنها قنية الأناسي ، وعامة منافعهم متعلقة بها ، فكان الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام بسقيهم . فإن قلت : فما معنى تنكير الأنعام والأناسي ووصفها بالكثرة ؟ قلت : معنى ذلك أن علية الناس وجلهم منيخون بالقرب من الأودية والأنهار ومنابع الماء ، ففيهم غنية عن سقي السماء ، وأعقابهم -وهم كثير منهم- لا يعيشهم إلا ما ينزل الله من رحمته وسقيا سمائه ، وكذلك قوله :
لنحيي به بلدة ميتا يريد بعض بلاد هؤلاء المتبعدين من مظان الماء . فإن قلت : لم قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي ؟ قلت : لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنعامهم ، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم ، ولأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم ومواشيهم ، لم يعدموا سقياهم .