قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون [ ص: 380 ] ويضيق وينطلق ، بالرفع ؛ لأنهما معطوفان على خبر إن ، وبالنصب لعطفهما على صلة أن ، والفرق بينهما في المعنى : أن الرفع يفيد أن فيه ثلاث علل : خوف التكذيب ، وضيق الصدر ، وامتناع انطلاق اللسان ، والنصب على أن خوفه متعلق بهذه الثلاثة . فإن قلت : في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة ، وفي جملتها نفي انطلاق اللسان . وحقيقة الخوف إنما هي غم يلحق الإنسان لأمر سيقع ، وذلك كان واقعا ، فكيف جاز تعليق الخوف به ؟ قلت : قد علق الخوف بتكذيبهم وبما يحصل له بسببه من ضيق الصدر ، والحبسة في اللسان زائدة على ما كان به ، على أن تلك الحبسة التي كانت به قد زالت بدعوته . وقيل : بقيت منها بقية يسيرة . فإن قلت : اعتذارك هذا يرده الرفع ، لأن المعنى : إني خائف ضيق الصدر غير منطلق اللسان . قلت : يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها ، ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي به ، ويجوز أن لا يكون مع حل العقدة من لسانه من الفصحاء المصاقع الذين أوتوا سلاطة الألسنة وبسطة المقال ،
وهارون كان بتلك الصفة ، فأراد أن يقرن به . ويدل عليه قوله تعالى :
وأخي هارون هو أفصح مني لسانا [القصص : 34 ] ومعنى :
فأرسل إلى هارون : أرسل إليه جبرائيل . واجعله نبيا ، وآزرني به ، واشدد به عضدي ، وهذا كلام مختصر . وقد بسطه في غير هذا الموضع ، وقد أحسن في الاختصار حيث قال :
فأرسل إلى هارون فجاء بما يتضمن معنى الاستنباء ، ومثله في تقصير الطويلة والحسن قوله تعالى :
فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا [الفرقان : 36 ] حيث اقتصر على ذكر طرفي القصة أولها وآخرها ، وهما الإنذار والتدمير ، ودل بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها ، وهو أنهم قوم كذبوا بآيات الله ، فأراد الله إلزام الحجة عليهم ، فبعث إليهم رسولين فكذبوهما ، فأهلكهم . فإن قلت : كيف ساغ
لموسى عليه السلام أن يأمره الله بأمر فلا يتقبله بسمع وطاعة من غير توقف وتشبث بعلل . وقد علم أن الله من ورائه ؟ قلت : قد امتثل وتقبل ، ولكنه التمس من ربه أن يعضده بأخيه حتى يتعاونا على تنفيذ أمره وتبليغ رسالته ، فمهد قبل التماسه عذره فيما التمسه ، ثم التمس بعد ذلك ، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر : ليس بتوقف في امتثال الأمر ، ولا بتعلل فيه ؛ وكفى بطلب العون دليلا على التقبل لا على التعلل .