[ ص: 213 ] أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رءوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون
تمت
قصة المؤمن وقرينه ، ثم رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فقال : "أذلك " الرزق
خير نزلا أي خير حاصلا
أم شجرة الزقوم وأصل النزل : الفضل والريع في الطعام ، يقال : طعام كثير النزل ، فاستعير للحاصل من الشيء ، وحاصل الرزق المعلوم : اللذة والسرور ، وحاصل شجرة الزقوم : الألم والغم ، وانتصاب نزلا على التمييز ، ولك أن تجعله حالا ، كما تقول : أثمر النخلة خير بلحا أم رطبا ؟ يعني أن الرزق المعلوم
نزل أهل الجنة . وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم ، فأيهما خير في كونه نزلا . والنزل : ما يقال للنازل بالمكان من الرزق . ومنه إنزال الجند لأرزاقهم ، كما يقال لما يقام لساكن الدار : السكن . ومعنى الأول : أن للرزق المعلوم نزلا ، ولشجر الزقوم نزلا ، فأيهما خير نزلا . ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم ، ولكن المؤمنين لما اختاروا ما أدى إلى الرزق المعلوم واختار الكافرون ما أدى إلى شجرة الزقوم قيل لهم ذلك توبيخا على سوء اختيارهم .
فتنة للظالمين محنة وعذابا لهم في الآخرة ، أو ابتلاء لهم في الدنيا ، وذلك أنهم قالوا : كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر ، فكذبوا . وقرئ : (نابتة )
في أصل الجحيم قيل : منبتها في قعر جهنم ، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها : والطلع للنخلة ، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها : إما استعارة لفظية ، أو معنوية ، وشبه برءوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهية وقبح المنظر ; لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس ; لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير ، فيقولون في القبيح الصورة : كأنه وجه شيطان ، كأنه رأس شيطان ، وإذا صوره المصورون : جاءوا بصورته على أقبح ما يقدر وأهوله ، كما أنهم اعتقدوا في ذلك أنه خير محض لا شر فيه ، فشبهوا به الصورة الحسنة . قال الله تعالى :
ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم [يوسف : 31 ] وهذا تشبيه تخييلي . وقيل : الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جدا . وقيل : إن شجرا يقال له الأستن خشنا منتنا مرا منكر الصورة ، يسمى ثمره : رؤوس الشياطين . وما سمت العرب هذا الثمر رءوس الشياطين إلا قصدا إلى أحد التشبيهين ، ولكنه بعد التسمية بذلك
[ ص: 214 ] رجع أصلا ثالثا يشبه به . "منها " من الشجرة ، أي من طلعها "فمالئون " بطونهم ; لما يغلبهم من الجوع الشديد ، أو يقسرون على أكلها وإن كرهوها ; ليكون بابا من العذاب ، فإذا شبعوا غلبهم العطش فيسقون شرابا من غساق أو صديد ، شوبه : أي مزاجه
من حميم يشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم ، كما قال في صفة شراب أهل الجنة :
ومزاجه من تسنيم [المطففين : 27 ] وقرئ : (لشوبا ) بالضم ، وهو اسم ما يشاب به ، والأول تسمية بالمصدر . فإن قلت : ما معنى حرف التراخي في قوله :
ثم إن لهم عليها لشوبا وفى قوله :
ثم إن مرجعهم ؟ قلت : في الأول وجهان ، أحدهما : أنهم يملئون البطون من شجر الزقوم ، وهو حار يحرق بطونهم ويعطشهم ، فلا يسقون إلا بعد ما ملي تعذيبا بذلك العطش ، ثم يسقون ما هو أحر وهو الشراب المشوب بالحميم . والثاني : أنه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة ، ثم ذكر الشراب بما هو أكره وأبشع ، فجاء بثم للدلالة على تراخي حال الشراب عن حال الطعام ومباينة صفته لصفته في الزيادة عليه . ومعنى الثاني : أنهم يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم في الجحيم ، وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم ، فيأكلون إلى أن يتملئوا ، ويسقون بعد ذلك ، ثم يرجعون إلى دركاتهم ، ومعنى التراخي في ذلك بين ، وقرئ : (ثم إن منقلبهم ) ، (ثم إن مصيرهم ) ، (ثم إن منفذهم إلى الجحيم ) ، علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد كلها بتقليد الآباء في الدين ، واتباعهم إياهم على الضلال ، وترك اتباع الدليل ، والإهراع : الإسراع الشديد ، كأنهم يحثون حثا . وقيل : إسراع فيه شبه بالرعدة .