فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين
"فاستفتهم " معطوف على مثله في أول السورة ، وإن تباعدت بينهما المسافة ، أمر رسوله باستفتاء
قريش عن وجه
إنكار البعث أولا ، ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض ، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها ، حيث جعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور في قولهم : الملائكة بنات الله ، مع كراهتهم الشديدة لهن ، ووأدهن ، واستنكافهم من ذكرهن . ولقد ارتكبوا في ذلك ثلاثة أنواع من الكفر ، أحدها : التجسيم ; لأن الولادة مختصة بالأجسام ، والثاني : تفضيل أنفسهم على ربهم حين جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم ، كما قال :
وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم [الزخرف : 17 ] ،
أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [الزخرف : 18 ] ، والثالث : أنهم استهانوا بأكرم خلق الله عليه وأقربهم إليه ، حيث أنثوهم ، ولو قيل لأقلهم وأدناهم : فيك أنوثة ، أو شكلك شكل النساء ، للبس لقائله جلد النمر ، ولانقلبت حماليقه ، وذلك في أهاجيهم بين مكشوف ، فكرر الله سبحانه الأنواع كلها في كتابه مرات ، ودل على فظاعتها في آيات :
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه [مريم : 88 - 89 ] ،
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [ ص: 232 ] [الأنبياء : 26 ] ،
وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض [البقرة : 116 ] ،
بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد [الأنعام : 101 ] ،
ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله [الصافات : 151 - 152 ] ،
وجعلوا له من عباده جزءا [الزخرف : 15 ] ،
ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [النحل : 57 ] ،
أم له البنات ولكم البنون [الطور : 39 ] ،
ويجعلون لله ما يكرهون [النحل : 62 ] ،
أصطفى البنات على البنين [الصافات : 153 ] ،
أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين [الزخرف : 16 ] ،
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [الزخرف : 19 ] .
أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون . فإن قلت : لم قال :
وهم شاهدون فخص علم المشاهدة ؟ قلت : ما هو الاستهزاء بهم وتجهيل لهم ، وكذلك قوله :
أشهدوا خلقهم [الزخرف : 19 ] ونحوه قوله :
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم [الكهف : 51 ] وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة ، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم . ولا بإخبار صادق ، ولا بطريق استدلال ونظر . ويجوز أن يكون المعنى : أنهم يقولون ذلك ، كالقائل قولا عن ثلج صدر وطمأنينة نفس لإفراط جهلهم ، كأنهم قد شاهدوا خلقهم . وقرئ : (ولد الله ) أي الملائكة ولده . والولد "فعل " بمعنى مفعول ، يقع على الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث . تقول : هذه ولدي ، وهؤلاء ولدي . فإن قلت :
أصطفى البنات بفتح الهمزة ، استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد ، فكيف صحت قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=11962أبي جعفر بكسر الهمزة على الإثبات ؟ قلت : جعله من كلام الكفرة بدلا عن قولهم :
ولد الله ، وقد قرأ بها
nindex.php?page=showalam&ids=15760حمزة nindex.php?page=showalam&ids=13726والأعمش رضي الله عنهما . وهذه القراءة -وإن كان هذا محملها - فهي ضعيفة ، والذي أضعفها : أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها ، وذلك قوله :
وإنهم لكاذبون .
ما لكم كيف تحكمون ؟ فمن جعلها للإثبات ، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين . وقرئ : (تذكرون ) من ذكر .
أم لكم سلطان أي حجة نزلت عليكم من السماء وخبر بأن الملائكة بنات الله ،
فأتوا بكتابكم الذي أنزل عليكم في ذلك ، كقوله تعالى :
أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون [الروم : 35 ] وهذه الآيات صادرة عن سخط عظيم ، وإنكار فظيع ، واستبعاد لأقاويلهم شديد ، وما الأساليب التي وردت عليها إلا ناطقة بتسفيه أحلام
قريش ، وتجهيل نفوسها ، واستركاك عقولها ، مع استهزاء وتهكم وتعجيب ، من أن يخطر مخطر مثل ذلك على بال ويحدث به نفسا ، فضلا أن يجعله
[ ص: 233 ] معتقدا ويتظاهر به مذهبا .