[ ص: 295 ] قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين قل إني أمرت بإخلاص الدين "وأمرت" بذلك "لـ" أجل
لأن أكون أول المسلمين أي: مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة، والمعنى: أن الإخلاص له السبقة في الدين، فمن أخلص كان سابقا. فإن قلت: كيف عطف "أمرت" على "أمرت" وهما واحد؟ قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين، ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت لأن أفعل ، ولا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع، والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله:
وأمرت أن أكون من المسلمين [يونس: 72]،
وأمرت أن أكون من المؤمنين [يونس: 104]، و
أمرت أن أكون أول من أسلم [الأنعام: 14] وفى معناه أوجه: أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي; لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها، وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما، وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره; لأكون مقتدى بي في قولي وفعلي جميعا، ولا تكون
[ ص: 296 ] صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب، يعني: أن الله أمرني أن أخلص له الدين من الشرك والرياء وكل شوب، بدليل العقل والوحي. فإن عصيت ربي بمخالفة الدليلين، استوجبت عذابه فلا أعصيه ولا أتابع أمركم، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه. فإن قلت: ما معنى التكرير في قوله:
قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وقوله:
قل الله أعبد مخلصا له ديني ؟ قلت: ليس بتكرير; لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بإحداث العبادة والإخلاص. والثاني: إخبار بأنه يختص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه، ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة وأخره في الأول، فالكلام أولا واقع في الفعل نفسه وإيجاده، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه قوله:
فاعبدوا ما شئتم من دونه والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير: المبالغة في الخذلان والتخلية، على ما حققت فيه القول مرتين. قل إن الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه هم
الذين خسروا أنفسهم لوقوعها في هلكة لا هلكة بعدها، (و) خسروا "وأهليهم" لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده إليهم. وقيل: وخسروهم لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، يعني: وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم لو آمنوا، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله:
ألا ذلك هو الخسران المبين حيث استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه، ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر، وعرف الخسران ونعته بالمبين.