وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين وأنيبوا إلى ربكم وتوبوا إليه.
وأسلموا له وأخلصوا له العمل، إنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه
واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم مثل قوله:
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه [الزمر: 18].
وأنتم لا تشعرون أي: يفجؤكم وأنتم غافلون، كأنكم لا تخشون شيئا لفرط غفلتكم وسهوكم.
أن تقول نفس كراهة أن تقول. فإن قلت: لم نكرت؟ قلت: لأن المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر. ويجوز أن يراد: نفس متميزة من الأنفس: إما بلجاج في الكفر شديد، أو بعذاب عظيم. ويجوز أن يراد التكثير،
[ ص: 314 ] كما قال
الأعشى [من الطويل]:
ورب بقيع لو هتفت بحوه أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا
وهو يريد: أفواجا من الكرام ينصرونه، لا كريما واحدا. ونظيره: رب بلد قطعت، ورب بطل قارعت. وقد اختلس الطعنة ولا يقصد إلا التكسير. وقرئ: (يا حسرتي) على الأصل. ويا حسرتاي، على الجمع بين العوض والمعوض منه. والجنب: الجانب، يقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته، وفلان لين الجنب والجانب، ثم قالوا: فرط في جنبه وفى جانبه، يريدون في حقه. قال
سابق البربري [من الطويل]:
أما تتقين الله في جنب وامق له كبد حرى عليك تقطع
وهذا من باب الكناية; لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبته فيه. ألا ترى إلى قوله [من الكامل]:
إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
[ ص: 315 ] ومنه قول الناس: لمكانك فعلت كذا، يريدون: لأجلك. وفى الحديث: "من الشرك الخفى أن يصلي الرجل لمكان الرجل" وكذلك: فعلت هذا من جهتك، فمن حيث لم يبق فرق فيما يرجع إلى أداء الغرض بين ذكر المكان وتركه، قيل:
فرطت في جنب الله على معنى: فرطت في ذات الله. فإن قلت: فمرجع كلامك إلى أن ذكر الجنب كلا ذكر سوى ما يعطى من حسن الكناية وبلاغتها، فكأنه قيل: فرطت في الله. فما معنى فرطت في الله؟ قلت: لا بد من تقدير مضاف محذوف، سواء ذكر الجنب أو لم يذكر. والمعنى: فرطت في طاعة الله وعبادة الله، وما أشبه ذلك. وفى حرف
عبد الله nindex.php?page=showalam&ids=41وحفصة : في ذكر الله. و "ما" في
ما فرطت مصدرية مثلها في ( بما رحبت ) [التوبة: 25]، [التوبة: 118]،
وإن كنت لمن الساخرين قال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها، ومحل
وإن كنت على النصب على الحال، كأنه قال: فرطت وأنا ساخر، أي: فرطت في حال سخريتي. وروي: أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق. وأتاه إبليس، وقال له: تمتع من الدنيا ثم تب، فأطاعه، وكان له مال فأنفقه في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان فقال: يا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله، ذهب عمري في طاعة الشيطان، وأسخطت ربي فندم حين لم ينفعه الندم، فأنزل الله خبره في القرآن
لو أن الله هداني لا يخلو: إما أن يريد الهداية بالإلجاء أو بالإلطاف أو بالوحي، فالإلجاء خارج عن الحكمة، ولم يكن من أهل الإلطاف فليلطف به. وأما الوحي فقد كان، ولكنه أعرض ولن يتبعه حتى يهتدي، وإنما يقول هذا تحيرا في أمره وتعللا بما لا يجدي عليه، كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحو ذلك، ونحوه
لو هدانا [ ص: 316 ] الله لهديناكم [إبراهيم: 21] وقوله:
بلى قد جاءتك آياتي رد من الله عليه، معناه: بلى قد هديت بالوحي فكذبت به واستكبرت عن قبوله، وآثرت الكفر على الإيمان، والضلالة على الهدى. وقرئ بكسر التاء على مخاطبة النفس. فإن قلت: هلا قرن الجواب بما هو جواب له، وهو قوله:
لو أن الله هداني ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لأنه لا يخلو: إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن، وإما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن، وأما الثاني: فلما فيه من نقص الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة، ثم التعلل بفقد الهداية، ثم تمني الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب. فإن قلت: كيف صح أن تقع بلى جوابا بالغير منفي؟ قلت:
لو أن الله هداني فيه معنى: ما هديت.