[ ص: 375 ] [سورة البلد]
مكية، وآياتها عشرون
[نزلت بعد ق]
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد
أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أن الإنسان خلق مغمورا في مكابدة المشاق والشدائد; واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله:
وأنت حل بهذا البلد يعني: ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا
البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم. عن شرحبيل: يحرمون أن يقتلوا بها صيدا ويعضدوا بها شجرة، ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل
مكة ، وتعجيب من حالهم في عداوته، أو سلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالقسم ببلده، على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد; واعترض بأن وعده فتح
مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه. فقال:
وأنت حل بهذا البلد ، يعني: وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر. وذلك أن الله فتح عليه
مكة وأحلها له، وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له فأحل ما شاء وحرم ما شاء. قتل
ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة.
ومقيس بن صبابة وغيرهما، وحرم دار
nindex.php?page=showalam&ids=12026أبي سفيان ، ثم قال: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=653971إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، فلا يعضد شجرها، ولا يختلى [ ص: 376 ] خلاها، ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال nindex.php?page=showalam&ids=18العباس : يا رسول الله، إلا الإذخر؛ فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا; فقال صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر".
فإن قلت: أين نظير قوله:
وأنت حل في معنى الاستقبال؟ قلت: قوله عز وجل:
إنك ميت وإنهم ميتون [الزمر: 30]. ومثله واسع في كلام العباد، تقول لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو، وهو في كلام الله أوسع; لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة. وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال: أن السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة عن وقت نزولها، فما بال الفتح؟ فإن قلت: ما المراد "بوالد وما ولد؟ " قلت: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن ولده، أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه إبراهيم ومنشأ أبيه إسماعيل، وبمن ولده وبه. فإن قلت: لم نكر؟ قلت: للإبهام المستقل بالمدح والتعجب. فإن قلت: هلا قيل: ومن ولد؟ قلت: فيه ما في قوله:
والله أعلم بما وضعت [آل عمران: 36]. أي: بأي شيء وضعت، يعني موضوعا عجيب الشأن. وقيل: هما آدم وولده. وقيل: كل والد وولد.
والكبد: أصله من قولك: كبد الرجل كبدا، فهو أكبد: إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة. ومنه اشتقت المكابدة، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه. وأصله: كبده، إذا أصاب كبده. قال
لبيد [من المنسرح]:
[ ص: 377 ] يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد
أي: في شدة الأمر وصعوبة الخطب.
والضمير في:
أيحسب لبعض صناديد
قريش الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد. والمعنى: أيظن هذا الصنديد القوي في قومه المتضعف للمؤمنين: أن لن تقوم قيامة، ولن يقدر على الانتقام منه وعلى مكافأته بما هو عليه، ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم، وأنه يقول:
أهلكت مالا لبدا يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم، ويدعونها معالي ومفاخر
أيحسب أن لم يره أحد حين كان ينفق ما ينفق رئاء الناس وافتخارا بينهم، يعني: أن الله كان يراه وكان عليه رقيبا. ويجوز أن يكون الضمير للإنسان، على أن يكون المعنى: أقسم بهذا البلد الشريف، ومن شرفه أنك حل به مما يقترفه أهله من المآثم متحرج برئ؛ فهو حقيق بأن أعظمه بقسمي به.
لقد خلقنا الإنسان في كبد أي: في مرض: وهو مرض القلب وفساد الباطن، يريد: الذين علم الله منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات. وقيل: الذي يحسب أن لن يقدر عليه أحد: هو أبو الأشد، وكان قويا يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فلا ينزع إلا قطعا ويبقى موضع قدميه. وقيل:
الوليد بن المغيرة . "لبدا" قرئ بالضم والكسر: جمع لبدة ولبدة، وهو ما تلبد يريد الكثرة: وقرئ: "لبدا بضمتين: جمع لبود. ولبدا: بالتشديد جمع لابد.