وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين آزر : اسم أبي
إبراهيم - عليه السلام - وفي كتب التواريخ أن اسمه بالسريانية : "
تارح" ، والأقرب أن يكون وزن : "
آزر" : فاعل ، مثل تارح وعابر ، وعازر ، وشالخ ، وفالغ ، وما أشبهها من أسمائهم ، وهو عطف بيان لأبيه ، وقرئ : " آزر " بالضم على النداء ، وقيل : " آزر " اسم صنم ، فيجوز أن ينبز به ; للزومه عبادته ، كما نبز " ابن قيس " بالرقيات اللاتي كان يشبب بهن ، فقيل : " ابن قيس الرقيات" ; وفي شعر بعض المحدثين : [من البسيط]
أدعى بأسماء نبزا في قبائلها كأن أسماء أضحت بعد أسمائي
[ ص: 366 ] أو أريد " عابد آزر" ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقرئ : " ءأزر تتخذ أصناما آلهة " بفتح الهمزة ، وكسرها بعد همزة الاستفهام ، وزاي ساكنة ، وراء منصوبة منونة ، وهو اسم صنم ، ومعناه : أتعبد
آزرا على الإنكار؟ ثم قال : تتخذ أصناما آلهة ; تثبيتا لذلك وتقريرا ، وهو داخل في حكم الإنكار ; لأنه كالبيان له
فلما جن عليه الليل : عطف على : " قال
إبراهيم لأبيه" ، وقوله :
وكذلك نري إبراهيم : جملة معترض بها بين المعطوف والمعطوف عليه ، والمعنى : مثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ، ونبصره ، " ملكوت السماوات والأرض" ; يعني الربوبية والإلهية ونوفقه لمعرفتها ، ونرشده بما شرحنا صدره ، وسددنا نظره ، وهديناه لطريق الاستدلال ، وليكون من الموقنين : فعلنا ذلك ، ونري : حكاية حال ماضية ، وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام ، والشمس ، والقمر ، والكواكب ، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر ، والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئا منها لا يصح أن يكون إلها ; لقيام دليل الحدوث فيها ، وأن وراءها محدثا أحدثها ; وصانعا صنعها ، مدبرا دبر طلوعها ، وأفولها ، وانتقالها ، ومسيرها ، وسائر أحوالها
هذا ربي : قول من ينصف خصمه ، مع علمه بأنه مبطل ، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه ; لأن ذلك أدعى إلى الحق ، وأنجى من الشغب ، ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة
لا أحب الآفلين : لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين عن حال إلى حال ، المتنقلين من مكان إلى مكان ، المحتجبين بستر ; فإن ذلك من صفات الأجرام ، " بازغا" : مبتدئا في الطلوع
لئن لم يهدني ربي : تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها ، وهو نظير الكوكب ، في الأفول ، فهو ضال ، وأن الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه
هذا أكبر : من باب استعمال النصفة - أيضا - مع خصومه
إني بريء مما تشركون : من الأجرام التي
[ ص: 367 ] تجعلونها شركاء لخالقها
إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض : أي : للذي دلت هذه المحدثات عليه ، وعلى أنه مبتدئها ومبتدعها .
وقيل : هذا كان نظره واستدلاله في نفسه ، فحكاه الله ، والأول أظهر ; لقوله :
لئن لم يهدني ربي وقوله :
قال يا قوم إني بريء مما تشركون .
فإن قلت : لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟
قلت : الاحتجاج بالأفول أظهر ; لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب .
فإن قلت : ما وجه التذكير في قوله : " هذا ربي" ، والإشارة للشمس؟
قلت : جعل المبتدأ مثل الخبر ; لكونهما عبارة عن شيء واحد ; كقولهم : ما جاءت حاجتك ، ومن كانت أمك
ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا [الأنعام : 23] ، وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ، ألا تراهم قالوا في صفة الله : " علام" ، ولم يقولوا : " علامة " وإن كان العلامة أبلغ ; احترازا من علامة التأنيث .
وقرئ : " تري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض" ، بالتاء ، ورفع الملكوت ، ومعناه : تبصره دلائل الربوبية .