ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون [ ص: 163 ] للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين من بعدهم : من بعد الرسل،
بآياتنا : بالآيات التسع،
فاستكبروا : عن قبولها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها، ويتعظموا عن تقبلها،
وكانوا قوما مجرمين : كفارا ذوي آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها، واجترؤوا على ردها،
فلما جاءهم الحق من عندنا : فلما عرفوا أنه هو الحق، وأنه من عند الله، لا من قبل
موسى وهارون، قالوا : لحبهم الشهوات،
إن هذا لسحر مبين : وهم يعلمون أن الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويها وباطلا .
فإن قلت: هم قطعوا بقولهم:
إن هذا لسحر مبين على أنه سحر، فكيف قيل لهم: أتقولون أسحر هذا ؟
قلت: فيه أوجه; أن يكون معنى قوله:
أتقولون للحق : أتعيبونه وتطعنون فيه، وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، من قولهم: فلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه; ونحو القول: الذكر، في قوله:
سمعنا فتى يذكرهم [الأنبياء: 60] ، ثم قال:
أسحر هذا فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه، وأن يحذف مفعول: "أتقولون" وهو ما دل عليه قولهم:
إن هذا لسحر مبين كأنه قيل : أتقولون ما تقولون، يعني: قولهم: إن هذا لسحر مبين، ثم قيل: أسحر هذا؟ وأن يكون جملة قوله:
أسحر هذا ولا يفلح الساحرون : حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا: أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح،
ولا يفلح الساحرون : كما قال
موسى للسحرة: "ما جئتم به السحر، إن الله سيبطله"،
لتلفتنا : لتصرفنا، واللفت والفتل: أخوان، ومطاوعهما الالتفات والانفتال،
عما وجدنا عليه آباءنا : يعنون: عبادة الأصنام،
وتكون لكما الكبرياء : أي: الملك; لأن الملوك موصوفون بالكبر; ولذلك قيل للملك: الجبار، ووصف بالصيد والشوس، ولذلك وصف ابن الرقيات مصعبا في قوله [من الخفيف]:
ملكه ملك رأفة ليس فيه ... جبروت منه ولا كبرياء
[ ص: 164 ] ينفي ما عليه الملوك من ذلك، ويجوز أن يقصدوا ذمهما، وأنهما إن ملكا أرض
مصر تجبرا وتكبرا; كما قال القبطي
لموسى -عليه السلام-:
إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض ،
وما نحن لكما بمؤمنين أي: مصدقين لكما فيما جئتما به، وقرئ: "يطبع"، و"يكون لكما" بالياء .