صفحة جزء
من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا

46 - من الذين هادوا بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب، أو بيان لأعدائكم، وما بينهما اعتراض، أو يتعلق بقوله: نصيرا أي: ينصركم من الذين هادوا كقوله: ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا [الأنبياء: 77]. أو يتعلق بمحذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم فـ "قوم": مبتدأ، و "يحرفون" صفة له، والخبر من الذين هادوا مقدم عليه، وحذف الموصوف وهو "قوم"، وأقيم صفته، وهو يحرفون الكلم عن [ ص: 362 ] مواضعه يميلونه عنها، ويزيلونه; لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلما غيره، فقد أمالوه عن مواضعه في التوراة، التي وضعه الله تعالى فيها، وأزالوه عنها، وذلك نحو تحريفهم: "أسمر ربعة" عن موضعه في التوراة بوضعهم: "آدم طويل" مكانه، ثم ذكر هنا عن مواضعه وفي المائدة من بعد مواضعه [المائدة: 41] فمعنى "عن مواضعه" على ما بينا من إزالته عن مواضعه، التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه. ومعنى من بعد مواضعه أنه كان له مواضع هو جدير بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره، والمعنيان متقاربان. ويقولون سمعنا قولك وعصينا أمرك، قيل: أسروا به واسمع قولنا غير مسمع حال من المخاطب، أي: اسمع وأنت غير مسمع، هو قول ذو وجهين يحتمل الذم، أي: اسمع منا مدعوا عليك بلا سمعت; لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع شيئا، فكان أصم غير مسمع، قالوا ذلك اتكالا على أن قولهم: لا سمعت، دعوة مستجابة، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، ومعناه: غير مسمع جوابا يوافقك، فكأنك لم تسمع شيئا، أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه، فسمعك عنه ناب، ويحتمل المدح أي: اسمع غير مسمع مكروها، من قولك: أسمع فلان فلانا إذا سبه. وراعنا يحتمل راعنا: نكلمك، أي: ارقبنا، وانتظرنا. ويحتمل شبه كلمة عبرانية، أو سريانية كانوا يتسابون بها، وهى "راعينا" فكانوا سخرية بالدين، وهزؤا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل، ينوون به الشتيمة، والإهانة، ويظهرون به التوقير، والإكرام. ليا بألسنتهم فتلا بها وتحريفا، أي: يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل، حيث يضعون "راعنا" موضع "انظرنا" و غير مسمع موضع "لا سمعت مكروها" أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا. وطعنا في الدين هو قولهم: لو كان نبيا حقا لأخبر بما نعتقد فيه: ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا ولم يقولوا: وعصينا واسمع ولم يلحقوا به غير مسمع [ ص: 363 ] وانظرنا مكان راعنا لكان قولهم ذاك: خيرا لهم عند الله وأقوم وأعدل، وأسد. ولكن لعنهم الله بكفرهم طردهم، وأبعدهم عن رحمته بسبب اختيارهم الكفر، فلا يؤمنون إلا قليلا منهم قد آمنوا كعبد الله ابن سلام وأصحابه، أو إلا إيمانا قليلا ضعيفا لا يعبأ به، وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية