قوله عز وجل:
وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون
التاء في "غائبة" للمبالغة، أي: ما من شيء في غائبة الغيب والخفاء إلا في كتاب
[ ص: 557 ] عند الله في مكنون علمه، ثم نبه تعالى على أن هذا القرآن أخبر بني إسرائيل بأكثر الأشياء التي كان بينهم اختلاف في صفتها، فجاءت في القرآن على وجهها، ثم وصفه تعالى بأنه هدى ورحمة للمؤمنين، كما أنه عمى على الكافرين المحتوم عليهم، ومعنى ذلك أن كفرهم استتب مع قيام الحجة ووضوح الطريق، فكثر عماهم بهذه الحجة، ثم أخبر أن ذلك كله بقضاء من الله تعالى وحكم قضاه فيهم وبينهم، ثم أمرهم بالتوكل عليه، والثقة بالله، وبأنه على الحق، أي: إنك الجدير بالنصرة والظهور، ثم سلاه عنهم، وشبههم بالموتى من حيث الفائدة بالقول لهؤلاء وهؤلاء معدومة، فشبههم مرة بالموتى ومرة بالصم، قال العلماء: الميت من الأحياء هو الذي يلقى الله تعالى بكفره.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله :
واحتجت
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى
بدر بهذه الآية ، ونظرت هي في الأمر بقياس عقلي، ووقفت مع هذه الآية، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=651281ما أنتم بأسمع منهم ، فيشبه أن قصة
بدر هي خرق عادة للنبي صلى الله عليه وسلم في أن رد الله تعالى إليهم إدراكا سمعوا به مقاله، ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ على من بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المسلمين منهم، وقد عورضت هذه الآية بالسلام على القبور، وبما روي في ذلك أن الأرواح تكون في شفير القبور في أوقات، قالوا: فلو لم يسمع الميت لم يسلم عليه.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا كله غير معارض للآية; لأن
السلام على القبور إنما هو عبادة، وعند الله
[ ص: 558 ] الثواب عليها، وهو تذكير للنفس بحالة الموت وبحالة الموتى في حياتهم، وإن جوزنا مع هذا أن الأرواح في وقت على القبور، فإن سمع فليس الروح بميت، وإنما المراد بقوله:
إنك لا تسمع الموتى الأشخاص الموجودة مفارقة لأرواحها، وفيها نقول: خرقت العادة
لمحمد صلى الله عليه وسلم في أهل القليب ، وذلك كنحو قوله عليه الصلاة والسلام في الموتى إذا دخل عليهم المكان:
nindex.php?page=hadith&LINKID=885875إنهم يسمعون خفق النعال .
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير : "ولا يسمع" بالياء من تحت "الصم" رفعا، ومثله في الروم، وقرأ الباقون: "تسمع" بالتاء "الصم" نصبا. وقرأ جمهور القراء: "وما أنت بهادي العمي" بالإضافة، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17304يحيى بن الحارث ،
وأبو حيوة : "بهاد العمي" بتنوين الدال ونصب "العمي"، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15760حمزة وحده: "وما أنت تهدي العمي" بفعل مستقبل، وهي قراءة
طلحة بن وثاب ،
nindex.php?page=showalam&ids=17344وابن يعمر ، وفي مصحف
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله : "وما أن تهدي العمي".
ومعنى قوله:
وإذا وقع القول عليهم إذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الآن من الله تعالى في ذلك -أي حتمه الله عليهم- وقضاؤه، وهذا بمنزلة قوله تعالى:
حقت كلمة العذاب ، فمعنى الآية: وإذا أراد الله تعالى أن ينفذ في الكافرين سابق علمه لهم من العذاب أخرج لهم دابة من الأرض، وروي أن ذلك حين ينقطع الخير، ولا يؤمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، ولا يبقى منيب ولا تائب، كما أوحى الله تعالى إلى
نوح :
أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، و "وقع" عبارة عن الثبوت واللزوم، وفي الحديث:
nindex.php?page=hadith&LINKID=665368إن الدابة وطلوع الشمس من المغرب من أول [ ص: 559 ] الأشراط -ولم يعين الأولى- وكذلك
الدجال .
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله :
وظاهر الأحاديث والروايات أن الشمس آخرها; لأن التوبة تنقطع معها، ويعطي الحال أن الإيمان لا يبقى إلا في أفراد، وعليهم تهب الريح التي لا تبقي إيمانا، وحينئذ ينفد وينفخ في الصور، ونحن نروي أن الدابة تسم قوما بالإيمان، ونجد أن
عيسى بن مريم عليه السلام يعدل بعد الدجال، ويؤمن الناس به، وهذه الدابة روي أنها تخرج من جبل
الصفا بمكة ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهم أجمعين- نحوه، وقال: لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة أنها تخرج في
تهامة ، وروي أنها تخرج من
مسجد الكوفة من حيث فار تنور
نوح عليه السلام ، وروى بعضهم عن
nindex.php?page=showalam&ids=21حذيفة بن اليمان أنها تخرج ثلاث خرجات، وروي أنها دابة مزغبة شعراء، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رضي الله عنهما أنها
[ ص: 560 ] على خلقة الآدميين، وهي في السحاب، وقوائمها في الأرض، وروي أنها جمعت من خلق كل حيوان، وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=13968الثعلبي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16414ابن الزبير نحوه، وروي أنها دابة مبثوث نوعها في الأرض، فهي تخرج في كل بلد وفي كل قوم، فقوله -على هذا التأويل-: "دابة" إنما هو اسم جنس، وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=15426النقاش عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما أنها الثعبان المشرف على جدار
الكعبة التي اقتلعتها العقاب حين أرادت
قريش بناء
الكعبة .
وقرأ جمهور الناس: "تكلمهم" من الكلام، وفي مصحف
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي : "تنبيهم"، وفسرها
nindex.php?page=showalam&ids=16584عكرمة بـ "تسمهم"، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة : وفي بعض القراءة: "تحدثهم"، وقرأ
أبو زرعة بن عمرو بن جريج : "تكلمهم" بكسر اللام من الكلم وهو الجرح، قال
أبو الفتح : هي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وابن جبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد ،
والجحدري ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما: كل ذلك والله تفعل تكلمهم وتكلمهم .
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله :
وروي في هذا أنها تمر على الناس فتسم الكافر في جبهته وترمده وتشتمه وربما حطمته، وربما تمسح على وجه المؤمن فتبيضه، ويعرف -بعد ذلك- الإيمان والكفر من قبلها.
وقرأ الجمهور من القراء: "إن الناس" بكسر "إن"، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15760حمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
[ ص: 561 ] nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم بفتح الألف، وفي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله : "تكلمهم بأن"، وهذا تصديق بالفتح، وعلى هذه القراءة يكون قوله:
أن الناس إلى آخر الآية من كلام الدابة، وروي ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما، ويحتمل أن يكون ذلك من كلام الله عز وجل.