قوله عز وجل:
وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد
معنى هذه الآية أنهم يقولون بآرائهم في كتاب الله تبارك وتعالى، فيقول بعضهم: سحر، وبعضهم: افتراء، وهو منهم تجرؤ لا يستندون فيه إلى إثارة علم، ولا إلى خبر من يقبل خبره، فإنا ما آتيناهم كتبا يدرسونها، ولا أرسلنا إليهم نذيرا فيمكنهم أن يدعوا أن أقوالهم تستند إلى أمره.
وقرأ جمهور الناس:
"يدرسونها" بسكون الدال، وقرأ
أبو حيوة: "يدرسونها" بفتح الدال وشدها وكسر الراء، والمعنى: وما أرسلنا من نذير يشافههم بشيء، ولا يباشر أهل عصرهم ولا من قرب من آبائهم، وإلا فقد كانت النذارة في العالم وفي العرب مع
شعيب وصالح وهود، ودعوة الله وتوحيده أمر قديم، لم تخل الأرض من داع إليه، فإنما المعنى: من نذير يختص بهؤلاء الذين بعثناك إليهم، وقد كان عند العرب كثير من نذارة
إسماعيل عليه السلام، والله تعالى يقول:
إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ، ولكن لم يتجرد للنذارة ولا قاتل عليها إلا
محمد صلوات الله وسلامه عليه.
ثم مثل لهم بالأمم المكذبة قبلهم، وقوله:
وما بلغوا معشار ما آتيناهم يحتمل ثلاثة معان: أحدها أن يعود الضمير في
"بلغوا" على قريش، وفي
"آتيناهم" على الأمم الذين من قبلهم، والمعنى: من القوة والنعم والظهور في الدنيا، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة ،
nindex.php?page=showalam&ids=16327وابن زيد رضي الله عنهم، والثاني بالعكس، والمعنى: من الآيات والبينات والنور الذي جئتهم به، والثالث أن يعود الضمير على الأمم المتقدمة، والمعنى: من
[ ص: 194 ] شكر النعمة وجزاء المنة. و"المعشار": العشر، ولم يأت هذا البناء إلا في العشرة والأربعة، فقالوا: مرباع ومعشار، وقال قوم: المعشار: عشر العشر، وهذا ليس بشيء.
و"النكير" مصدر كالإنكار في المعنى، وكالعرين في الوزن، وسقطت الياء منه تخفيفا لأنها آخر آية، و"كيف" تعظيم للأمر، وليست استفهاما مجردا، وفي هذا تهديد لقريش، أي: أنهم معرضون لنكير مثله.
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى عبادة الله، والنظر في حقيقة نبوته هو، ويعظهم بأمر يقرب للأفهام، فقوله: "بواحدة" معناه: بقضية واحدة إيجازا لكم وتقريبا عليكم، وقوله "أن" مفسرة، ويجوز أن تكون بدلا من "واحدة". وقوله:
تقوموا لله مثنى وفرادى يحتمل أن يريد بالطاعة والإخلاص والعبادة، فتكون الواحدة التي وعظ بها هذه، ثم عطف عليها أن يتفكروا في أمره هو، هل به جنة أو هو بريء من ذلك؟ والوقف عند
أبي حاتم "تتفكروا"، فيجيء "ما بصاحبكم" نفيا مستأنفا، وهو عند
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه جواب ما تنزل منزلة القسم; لأن "تفكر" من الأفعال التي تعطي التحقيق كتبين، وتكون الفكرة - على هذا - في آيات الله والإيمان به، ويحتمل أن يريد بقيامهم أن يكون لوجه الله في معنى التفكر في
محمد عليه الصلاة والسلام، فتكون الواحدة التي وعظ بها "أن يقوموا"، لمعنى: أن تقوموا للفكرة في أمر حاجتهم، وكأن المعنى أن يفكر الواحد بينه وبين نفسه، ويتناظم الاثنان على جهة طلب التحقيق، هل
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - جنة أم لا؟ وعلى هذا لا يوقف على الفكرة. وقدم المثنى لأن الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة، فإذا انقدح الحق بين الاثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزيد بصيرة، وقد قال الشاعر:
إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة ... فيزداد بعض القوم من بعضهم علما
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17379يعقوب: "ثم تفكروا" بتاء واحدة، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد (بواحدة) معناه: بلا إله إلا الله، وقيل غير هذا مما لا تعطيه الآية.
وقوله: "بين يدي" مرتب على أن
محمدا صلى الله عليه وسلم جاء في الزمن من قبل العذاب الشديد الذي توعدوا به.