قوله عز وجل:
ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير
أخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا التي تلينا -أي: التي تلينا- بمصابيح وهي النجوم، فإن كان جميع النجوم في السماء الدنيا فهذا اللفظ عام للكواكب، وإن كان في سائر السماوات كواكب فإما أن يريد كواكب سماء الدنيا فقط، وإما أن يريد الجميع على أن ما في غيرها لما كانت هي تشف عنه ويظهر منها فقد تزينت به بوجه ما، ومن تكلف القول لمواضع الكواكب وفي أي سماء هي فقوله ليس من الشريعة.
وقوله تعالى:
وجعلناها رجوما معناه: وجعلنا منها، وهذا كما تقول: أكرمت بني فلان وصنعت بهم، وأنت إنما فعلت ذلك ببعض دون بعض، ويوجب هذا التأويل في الآية أن الكواكب الثابتة والبروج وكل ما يهتدى به في البر والبحر فليست برواجم،
[ ص: 354 ] وهذا نص في حديث السير، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة : رحمه الله خلق الله تعالى النجوم زينة ورجوما للشياطين.
وليهتدى بها في البر والبحر، ومن قال غير هذه الخصال الثلاث فقد تكلف وأذهب حظه من الآخرة. و"أعتدنا" معناه أعددنا، والضمير في "لهم" عائد على الشياطين.
وقرأ جمهور الناس: "وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم" بالرفع على الابتداء، والخبر في المجرور المتقدم، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن في -رواية
هارون عنه-: "عذاب جهنم" بالنصب على معنى: وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم، فالواو عاطفة فعل على فعل، وتضمنت هذه الآية، أن عذاب جهنم للكفار المخلدين، وقد جاء في الأثر أنه يمر على جهنم زمر تخفق أبوابها، قد أخلتها الشفاعة، فالذي يقال في هذا إن "جهنم" تختص به الطبقة العليا من النار، ثم قد تسمى الطبقات كلها "جهنم" باسم بعضها، وهكذا كما يقال "نجم" للثريا، ثم يقال ذلك للكواكب اسم جنس، فالذي في هذه الآية جهنم بأسرها، أي: جميع الطبقات، والتي في الأثر هي الطبقة العليا لأنها مقر العصاة. و"الشهيق" أقبح ما يكون من صوت الحمار، فاحتدام النار وغليانها بصوت مثل ذلك.
قوله تعالى:
تكاد تميز من الغيظ ، أي: يزايل بعضها بعضا لشدة الاضطراب، كما قال الشاعر في صفة الكلب يحتدم في جريه:
يكاد أن يخرج عن إهابه
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14676الضحاك : "تمايز" بالألف، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16258طلحة : "تتميز" بتاءين، وقرأ الجمهور: "تميز" مخففة التاء، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13869البزي وقوم: "تكاد تميز" بضم الدال وشد التاء على أنها "تتميز" وأدغم إحدى التاءين في الأخرى، وقرأ قوم بإدغام الدال في التاء، وهذا فيه إدغام الأقوى في الأضعف، وقوله تعالى: "من الغيظ" معناه: على الكفرة بالله تعالى، وقوله سبحانه:
كلما ألقي فيها فوج ، الفوج: الفريق من الناس، ومنه قوله تعالى :
في دين الله أفواجا الآية، تقتضي أنه لا يلقى فيها أحد إلا سئل -على جهة التوبيخ
[ ص: 355 ] -عن النذر،فأقر بأنهم جاءوا وكذبوهم، وقوله تعالى: "كلما" حصر، فإذا الآية تقتضي في
الأطفال من أولاد المشركين وغيرهم وفيمن نقدره صاحب فترة أنهم لا يدخلون النار لأنهم لم يأتهم نذير.
واختلف الناس في أمر الأطفال، فاجتمعت الأمة على أن أولاد الأنبياء عليهم السلام "أنهم في الجنة"، وقال قوم: هم في المشيئة. واختلفوا في أولاد المشركين، فقالت فرقة: هم في النار، واحتجوا بحديث روي
nindex.php?page=hadith&LINKID=660291 "هم من آبائهم"، وتأول المخالف هذا الحديث أنه في أحكام الدنيا، وقال آخرون: هم في المشيئة، وقال آخرون: هم في الجنة واحتج هذا الفريق بهذه الآية في مساءلة الخزنة، وبحديث وقع في صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في كتاب التعبير، يتضمن أنهم في الجنة، وبقوله عليه الصلاة والسلام:
nindex.php?page=hadith&LINKID=651296 "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، والأطفال لم يبلغوا أن يصنع بهم شيء من هذا.
وقوله تعالى:
إن أنتم إلا في ضلال كبير يحتمل أن يكون من قول الملائكة للكفار حين أخبروا عن أنفسهم أنهم كذبوا النذر، ويحتمل أن يكون من كلام الكفار للنذر.